هو في الواقع كلاهما ولا أحدهما. في الواقع الإنسان ليس هذا ولا ذاك بل هو إنسان. ولكن ما الذي يحول الإنسان من رجل عادي بسيط، إلى مجرم محترف وقاتل سادي؟ من أجل الكشف عن المخابئ الدفينة في أسرار النفس الإنسانية، قام عالم النفس الاجتماعي (زيمباردو)، من جامعة (ستانفورد) في كاليفورنيا، في أميركا بتجربة هزت الضمير الأميركي؛ لأنها كشفت الوحش المختبئ في داخل كل منا. وكانت التجربة تقوم على انتخاب شرائح اجتماعية عادية، ووضع مفاتيح القوة في يدها، مع مصائر الآخرين في صورة سجن؟ فما المانع أن نكتشف حقيقة الانسان، حينما نخوله أن يكون سجَّانا، يحمل هراوة في يده، يصدر الأوامر ويرغي ويزبد. قام (زيمباردو) بانتخاب 24 متطوعاً، من أصل 75 شخصاً، وبنسبة ذكاء عادي؛ فقسمهم الى مجموعتين، على نحو عشوائي: سجان ومسجون. ثم أوعز إلى الشرطة بمطاردتهم: أيتها العير إنكم لسارقون، فألقوا القبض عليهم واقتادوهم بالأصفاد والسلاسل وعصابات الأعين إلى السجن ثم أودعوا القبو. أما السجَّانون الذين تلقوهم بملابسهم ونظاراتهم السوداء؛ فكانوا يوحون بأنهم شرطة حقيقية، معهم كل الصلاحيات، وفي أيديهم الهراوات، مع رزمة المفاتيح، وكاميرات الفيديو تصور، مع مسجل صوتي في كل زنزانة، يسجل السر وأخفى. في لحظات وصولهم الأولى، تم نزع ملابسهم، ومسح أسمائهم، حيث تحول كل واحد إلى رقم. بعدها تم تنظيفهم من القمل، برشاشات المياه، وأخيراً لبسوا ملابس العنابر القطنية، الطويلة المهترئة، من دون أي ملابس داخلية، وفي أقدامهم وضعت السلاسل. وأما أغطية الرأس فكانت جوارب نسائية على شكل مقلوب. يقول (زيمباردو) مر نهار اليوم الأول هادئاً، ولكن السجانين فاجأوا المعتقلين عند الساعة 2.30 بعد الظهر في ترتيب غرفهم؛ مما حرض عندهم التمرد في اليوم التالي، ورموا بالإشارات، وشتموا السجانين، وانتزعوا الجوارب النسائية من رؤوسهم؟! فالمسألة لا تزيد عن لعبة؟ ولكنها لم تكن وأطلقت الوحش من داخلنا؟ وكان ارتكاس السجانين أشد؛ فأطلقوا على السجناء خراطيم المياه، واعتقلوا القياديين منهم، فألقوهم في الافراديات المظلمة، وفرغوا الغرف من الفرش، وتركوها عارية. يقول زيمباردو إن المعتقل رقم( 8612) جاءه بعد اعتقال 36 ساعة في الانفرادية يستغيث؛ أن ينهي التجربة، فلم يعد يستطيع التحمل؛ فأوعز إليه أن يعمل لحسابه كجاسوس بين المجموعة؟! قام المسجون(8612 ) بنقل الرسالة على نحو خاطئ للآخرين؛ بأن التجربة ماضية في سبيلها، ولن يطلق سراح أحد؟! هنا شعر المعتقلون أنهم وقعوا في الفخ؛ فانكسرت المقاومة الأخيرة عندهم، ليرجع كل انسان إلى غرائزه البدائية، في الحفاظ على الحياة. كان من المفروض أن تستمر التجربة 14 يوماً، والذي حصل أن الوسط تحول إلى جو إرهاب خلال ثلاثة أيام فقط، وفي اليوم السادس اضطر (زيمباردو) أن يوقف التجربة؛ فلا يمكن تبرير ما يحدث أخلاقياً تحت اسم التجارب العلمية، ولا يمكن المضي في إطلاق الوحش من صدرنا لهذا المدى؟ لأن كل الفظاعات الممكن تصورها انفتح الباب إليها على مصراعيه، فانهار البعض، وبدأ يهلوس ويهستر آخرون، وهناك من أصيب بنوبة حساسية جلدية رهيبة، مما حتم نقله إلى المشفى بحالة إسعافية. ليس هذا فقط بل إن الصدمة النفسية استمرت بعد التجربة إلى حين. كان كل من الجلاد والضحية يعاني من اختلال خطير، بين الذل والتجبر، واحتقار النفس وجنون العظمة. والنتيجة التي خرج بها (زيمباردو) أن ما يحكم ليس الأخلاق الفردية، بل الوسط الإجتماعي، عندما تحين الفرص للتحكم بالآخرين ولا يوجد من يردع. وأدرك كم هي مدى القسوة التي يصل إليها الانسان، في إذلال وتعذيب أخيه الانسان. كانت نتيجة التجربة تقول: يجب أن نستبدل قناعتنا أن مثل هذه الفظاعات لا يمكن أن نفعلها، بل يجب أن نقول إن كل واحد منا جائز أن ينقلب إلى سفاح، حالما تقعقع في يده مفاتيح القوة وسلاسل السجون. وإن أعظم النفوس عندها استعداد أن ترتكب أفظع الرذائل إذا تغير الوسط من حولها، كما في قصة الذي قتل 99 نفساً. و"نفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها".