منذ الإشارات الأولى على نشأة العولمة "النظام العالمي الجديد"، انطلقت حركة من الإنتاج الثقافي والإيديولوجي والمعرفي راحت تتعاظم يداً بيد، مع ما ارتبط بهذه العولمة من أحداث تكنولوجية واقتصادية وعسكرية وغيرها. ومع هذا وذاك، برز مصطلح "الليبرالية الجديدة - المتطرفة" كأنه متماهٍ ومتطابق، مع العولمة، بحيث لا يصحّ النظر إلى هذه الأخيرة بعيداً عن تلك، أي الليبرالية. وتفاعلت المواقف وتصارعت وتساجلت تحت قعقعة السلاح في يوغوسلافيا وباكستان وأفغانستان والعراق ولبنان... إلخ، لتؤكد وقائع، وتُلغي أخرى، وتترك فئة ثالثة مفتوحة خاضعة لعملية أو عمليات المخاض الجديدة المتدفقة. وفي سياق ذلك، أخذت منظومات فكرية وإيديولوجية جديدة تطرح نفسها على نحوٍ يعقِّد الموقف، من مثل صراع الحضارات، ونهاية التاريخ، والمابعْديات (ما بعد الحداثة وما بعد التاريخ وما بعد العقل وغيره). وكان ذلك بمثابة تحفيز لنشأة "الليبرالية الجديدة" من حيث هي الوجه الإيديولوجي للعولمة، أي المحفّز لهذه الأخيرة والمنظِّر لها. وتتابعت المواقف لتنتج صفة "المتوحّشة" للعولمة. أما ما كان يأخذ مداه، دون شك، فيتمثل في عملية دمج العالم عبر أداتين اثنتين هائلتي العواقب والتأثيرات، هما ثورتا المعلومات والاتصالات. لكن هاتين الأداتين فعلتا فعلهما عن طريق حامِلهما الاقتصادي الاستراتيجي، الذي هو ما أخذ يتعمْلق بصيغة الشركات متعددة الجنسيات (الهويات)، ومن ثم عديمة الجنسية إلا من جنسية واحدة تسعى لأن تكون الوحيدة الموحِّدة، ونعني بذلك السوق. ومع تحوّل الكون إلى ساحة واحدة ومكان واحد، راحت تلك السوق تستكمل شخصيتها، فغدت "السّوق الكونيّة الواحدة"، التي لا تحتمل المنافسة لا من سوق وطنية ولا من سيادة دولتية ولا من تقوقع اقتصادي أو ثقافي أو سياسي. وراحت الأمور تسير على هذا النحو أو يُراد لها أن تسير هكذا، بكل عُتوٍّ وصلابة واندفاع، وذلك بمصاحبة "خطاب عولمي" آخذٍ في التكامل بكيفية إيديولوجية ذرائعية لا تقبل الأغيار، إلا إذا أعلنوا استسلامهم بطريقة أو بأخرى. أما ذلك "الخطاب" فأخذ يتسع عمقاً وسطحاً بمثابته خطاب "العولمة"، أي الخطاب الذي يسعى إلى اكتساب شرعيته من موقع العولمة، مع أن الأمر -كما يرى البعض- لا يحتمل ذلك. وذلك الرأي الأخير يأخذ به شطرٌ من الباحثين الأوروبيين، تبرز منهم الفرنسية "فيفيان فورستر"، التي نشرت كتاباً بعنوان: "ديكتاتورية غريبة"، بعد نشرها كتابات أخرى أثارت حواراً ملحوظاً. ففي هذا الكتاب، تدافع عن الأطروحة القائلة إن الليبرالية لا يمكن النظر إليها -خصوصاً في صيغتها المتطرفة المقيتة- من حيث هي رديف لـ"العولمة"، ذلك أن هذه الأخيرة "ظاهرة تاريخية غير محتملة للارتداد"، لأنها موضوعية الطابع، إضافة إلى أن مستقبلها يمكن إعادة بنائه وتعديله، إذا توافرت السياسات الفاعلة في هذا التوجّه. ومن ثم، فإن الليبرالية المذكورة -وهي إحدى الإدارات الناظمة المحتملة دون أن تكون أكثر من ذلك- لا يمكن أن تكون مطابقة للعولمة أو بديلاً عنها. ومن ثم وحيث يكون الأمر على هذا النحو، فإن الليبرالية المتطرفة تسعى -من موقعها واشتراطاتها الإيديولوجية- لإلباس العولمة إيديولوجيتها الخاصة القائمة على الهيمنة والسيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وعلى تنميط العالم اقتصاداً وسياسة وثقافة ولغة... إلخ. إن ما تطرحه "فيفيان فورستر" ومَنْ يأخذ بأطروحتها، ينطوي على فكرة دقيقة جداً وتمتلك مصداقية معرفية، هي أن الليبرالية المعنية هنا نجحت -إلى درجة ملحوظة- في تقديم العولمة على النحو المتوحش، خصوصاً في سياسات الإدارة الأميركية الجمهورية. لكننا إذا منحنا هذا المعطى مثل تلك المصداقية، فإن أمراً آخر أكثر حسماً يفرض نفسه على البحث، ونعني ذلك الطابع الموضوعي لـ"العولمة" بمثابتها نظاماً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً يسعى إلى ابتلاع الطبيعة والبشر، وإلى هضمهم وتمثـُّلهم وإخراجهم سلعاً في "السوق الكونية السلعية الواحدة". فهذه الأخيرة ليست ابتداعاً أو تلفيقاً أحدثته الليبرالية المتطرفة المتوحشة، وإنما هي حالة جديدة تمتلك قانونياتها وآلياتها واستراتيجيتها، تأسست في صلب النظام الرأسمالي وبصيغة مرحلة جديدة فيه. فهي -بهذا- امتدادٌ تاريخي له، وفي الوقت ذاته قطعٌ مع مراحله السابقة، تعبيراً عن جِدَّتها النسبية. لاشك أن الباحثة "فيفيان فورستر" ستكون مُحقّة، فيما لو أعلنت أن العولمة ظاهرة رأسمالية ببنية ووظائف جديدة نسبياً، وفيما لو رأت أن الظاهرة الموضوعية ذاتها (المُمثلة بالعولمة) ليست فوق التاريخ، وإنما هي خاضعة، بقدر معين، للنظريات والآراء التي توجهها وتتدخل في مساراتها، بحيث يغدو القول صحيحاً إن الليبرالية إياها من حيث هي قوة إيديولوجية متوحشة، استطاعت أن تعمّق سواد العولمة أكثر وبكيفيات خطيرة، لكن هذه الأخيرة ليست ضحية الليبرالية المذكورة. ها هنا، يصح التذكير برأي "دوجلاس مايْسي" في كتابه "عودة كلمة اللاّم" القائل باحتمال نشوء احتمالات فكرية وإيديولوجية أقل تطرفاً وظلامية ضمن الليبرالية ذاتها، تتمكن من الوقوف في وجه العولمة في وجهها الخطير القائم على زرع الفقر واللامساواة واستباحة السيادات والهيمنة على العالم اقتصادياً وأمنياً وثقافياً... إلخ. وقد نرى أن ما يراه "مايْسي" يتقاطع مع الدعوة العالمية إلى "عولمة بديلة" تُقر بالمساواة والديمقراطية، وبحقّ تقرير مصائر الشعوب والأوطان وغيره. وبهذه الطريقة، نتحاشى رأي فيفيان فورستر، الذي يمكن أن يُفضي إلى النتيجة المثيرة للشك، وهي التالية: إذا سقطت الإيديولوجيا الليبرالية المتطرفة، فإن اللوحة العولمية، التي يُنظر إليها في هذه الحال على أنها ضحية الليبرالية كما أشرنا، تختفي، وتحل محلها لوحة أخرى. إن وضع الأشياء في سياقاتها التاريخية والمجتمعية طريق إلى ضبط الموقف.