لاشك أن حيازة كوريا الشمالية للسلاح النووي تعتبر من أسوأ التطورات التي شهدتها مساعي منع الانتشار النووي التي يبذلها المجتمع الدولي. فلا يوجد نظام أكثر إثارة للمخاوف في العالم من النظام في بيونج يانج بما ينطوي عليه من هشاشة ونزعة عدائية تجاه الدول المجاورة، فضلاً عن عزلته الدولية المُطلقة التي تجعله يظهر في كثير من الأحيان كنظام فقد عقله وخرج عن طوره. ولا يجادل أحد في أن كوريا شمالية مدججة بالسلاح النووي هي قطعاً لاعب دولي يهدد السلم العالمي، كما أنها تشكل مصدراً للمشاكل في شرق آسيا وقد تفتح المنطقة على سباق تسلح محموم بين القوى الإقليمية الكبرى. ومع ذلك علينا الاعتراف بأن ما حصل الآن قد حصل ولا يمكننا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء رغم كل الاحتجاجات والوعيد. وليس هناك من شيء يمكن للولايات المتحدة أن تقوم به لوقف مسيرة كوريا الشمالية بشكل حاسم، ودون قيد أو شرط. وبدلاً من استعراض ضعفنا أمام الجميع يحسن بنا التزام الهدوء والتفكير فيما يمكن فعله. وعلى كلٍّ، لم يكن ذلك خارج إطار التوقع، بل إن انتشار السلاح النووي كان على الدوام أمراً حتمياً ومسألة وقت ليس أكثر. واللافت أن الإعلان الكوري الشمالي عن تطوير برنامج سري للسلاح النووي لم يُكشف علناً، ولكنه جاء خلال الزيارة التي قام بها وفد أميركي برئاسة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأقصى والمحيط الهادئ "جيمس كيلي" مطلع أكتوبر الجاري إلى كوريا الشمالية؛ ما قد يشير إلى أن هدفه ربما كان نقل رسالة تحذير لواشنطن التي تخلت عن خطط جرى إقرارها عام 1994 لمساعدة كوريا الشمالية. فقد نجحت إدارة الرئيس الأسبق كلينتون في استثمار حالة الفقر والجفاف والمجاعة التي سادت كوريا الشمالية عامي 1993 و1994 في الضغط على بيونج يانج لوقف برنامجها لتطوير السلاح النووي، وتخفيف التعاون التسليحي الصاروخي مع دول عربية وإيران، وأثمر هذا عن اتفاق عام 1994 ينص على قيام كونسورسيوم دولي برئاسة الولايات المتحدة -يضم الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية واليابان- ببناء مفاعليْن نووين يعملان بالمياه الخفيفة في كوريا الشمالية قبل عام 2003 مقابل تجميد بيونج يانج برامجها للأسلحة النووية، وأيضاً وقف تجارب الصواريخ الكورية الشمالية مقابل الحصول على تعويض. وليس سراً أن امتلاك كوريا الشمالية لبرنامج نووي علني يهدد المصالح الأميركية في كوريا الجنوبية وكل منطقة شرق آسيا، ويزيد من تعقيد الوضع هناك، خصوصاً في أعقاب تفجيرات باكستان والهند النووية، كما أن بروز التهديد الكوري الآن يربك خططنا في العراق. فعلى المستوى الدولي تقول واشنطن: إنها ضربت العراق؛ لأنها كانت تشك أنه يسعى لامتلاك سلاح نووي. واليوم يجعل إعلان كوريا الشمالية -بدون لبْس- أنها تمتلك ذلك بالفعل التحرك الأميركي تجاه العراق في مقابل تجاهل بيونج يانج مفارقة وأمراً غير ذي معنى. وعلى المستوى الاستراتيجي ستكون لحصول كوريا الشمالية على سلاح نووي، وتحولها إلى دولة نووية مخاطر كبيرة على مصالح واشنطن ومصالح حلفائها سواء في المربع المحيط بكوريا الشمالية (واليابان أكثر المتضررين هنا، خصوصاً أن لها ثأراً تاريخياً مع كوريا)، أو في مناطق العالم الأخرى. ثم إن المساعي الأميركية، كما الدولية الرامية إلى منع انتشار السلاح النووي والحيلولة دون انتقاله إلى دول مارقة، باتت مهددة بالانهيار من خلال كسر سيطرة واشنطن على مناطق بيع السلاح، واحتكار هذه التجارة. وإذا كانت الكوريون الجنوبيون والصينيون عقبتين في هذا الطريق؛ فمن شأن تحول الكوريين الشماليين إلى قوة نووية أن يفتح أمامهم باب تجارة السلاح، والصواريخ تحديداً على مصراعيه من جانب الدول التي تعتبرها واشنطن أعداء؛ وهو ما يهدم نظرية الاحتواء التسليحي الأميركية من اساسها، وقد يفجر بؤر توتر لا سيطرة لأميركا عليها. وربما يزيد القلق الأميركي ما أعلنته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في 18-10-2002 نقلاً عن "ريتشارد أرميتاج" نائب وزير الخارجية الأميركي، من أن مسؤولين في المخابرات الأميركية توصلوا إلى أن باكستان زودت كوريا الشمالية بمعدات مهمة للغاية في مسعاها لتصنيع أسلحة نووية، وأن باكستان قدمت لكوريا الشمالية معدات للطرد المركزي لإنتاج اليورانيوم المخصص للأغراض العسكرية، بناء على اتفاق سري تم التوصل إليه بين البلدين عام 1997 مقابل منح باكستان صواريخ لدعم موقفها في سباق التسلح الذي تخوضه مع الهند. إذ إن هذا الإعلان الأميركي يؤكد المخاطر السابقة عن إمكانية مقايضة الكوريين الشماليين للسلاح بأشياء أخرى مثل المال مع دول أخرى، ومدها ليس فقط بسلاح نووي أو تكنولوجيا نووية، ولكن أيضاً بوسائل إيصال هذا السلاح لهدفه. وقد ألمح أرميتاج إلى بعض من هذه المخاطر عندما قال: "إن هذا الأمر يهدد المصالح الأميركية، بالإضافة إلى مصالح اثنتين من حليفاتنا هما اليابان وكوريا الجنوبية، اللتان تتسم علاقتهما بكوريا الشمالية بالتوتر المستمر". فهل ستترك واشنطن الفرصة لكوريا الشمالية لتربك الخطط الأميركية في شرق آسيا وتزعزع استقرار المنطقة، أم أن واشنطن ستسارع إلى لجم الكوريين الشماليين سريعاً وتتحرك قدماً لإحياء اتفاق عام 1994 مع تشديد القيود على التعامل كوريا الشمالية مع بقية الدول التي تعتبرها أميركا "محور الشر"؟ ويليام لانجويتش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"