هنالك جدلٌ فقهي وفكري كبير يجري في العالم العربي والإسلامي حول قضية النقاب، هذه القضية التي أصبحت تشكّل حديثاً فقهياً وفكرياً وسياسياً واجتماعياً، وكأن هذا العالم -العربي والإسلامي- قد تخلّص من "أدرانه" المُستعصية، ليتم الزجُّ به إلى أتون معاداة العالم من أجل تغطية وجه امرأة من عدمه، بل والدخول في محاكمات وقضايا قد تضرّ ولا تفيد. لن أدخل هنا في جدل فقهي حول النقاب، لأن لذلك أهلاً يقومون به، لكنني سأورد التناقض بين الأطراف الإسلامية حول القضية، خصوصاً ما تعلق بـ"ضرب الخمار" أو "إدناء الجلابيب". وأستغربُ من تفسير أحد شيوخ الدين بأن النقاب ثابت في القرآن والأحاديث النبوية، ويستدل على ذلك من قوله تعالى: "قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن"، ولا أدرك معنى "الإدناء" وكيفية ربطه بالنقاب! كما يستشهد الشيخ بحديث للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا تتنقّبُ المُحرمة ولا تلبس القفازين". ويُفسر ذلك بأن (غير المحرمة يجب أن ترتدي النقاب)، ولا نجد في ذلك أي رابط عقلي! ولماذا يأخذ الشيخ التخصيص، ويربطه بالإطلاق على التعميم؟ هذه إحدى إشكاليات التعصب الذي لا زلنا لا نفهمه في عالمنا الإسلامي. وكيل الأزهر السابق الشيخ محمود عاشور يقول: "النقاب ليس بفرضٍ ولا سُنة، وإنما هو فضيلة لمن أرادت أن تلبسه لدواعٍ هي أعلمُ بها". ويقول: "من يقول إن النقاب فرض فإنه (تزايد) أي تشدّد! وهذا ليس من الإسلام، لأن الإسلام دين اليُسر والسماحة". إحدى المدافعات عن الحجاب والنافيات لفرض النقاب تقول: "الحجاب الوارد في قوله تعالى "فاسألوهن من وراء حجاب" هو الستر الذي يكون في البيت، يُرخى ليفصل بين مجالس الرجال ومجلس النساء"! كما توضح أن (ضرب الخمار) هو أن "تضع المرأة الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر". كما تردّ على شيخ الدين السابق في قضية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تتنقّب المُحرمة"، أن الإباحة واضحة في كشف وجه المرأة، وتأتي بمثل لصحابية، جادلت الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، حيث يروي راوي الحديث أنها كانت "سعفاء الخدين"، وهذا يدل على كشفها لوجهها، وإلا كيف استطاع الراوي وصفها؟ (الشرق الأوسط عدد 10187). الجدل الذي لابد أن ندخل فيه هو: هل النقاب تمييز ديني أم لا؟ تماماً كما حصل مع مضيفة بشركة طيران بريطانية (مسيحية من أصل مصري) تم إيقافها عن العمل لأنها كانت تضع الصليب على صدرها! ذلك أن القوانين تمنع الرموز الدينية على موظفيها، ويمكن وضعها تحت الملابس. قضية النقاب من الناحية العملية تتفاعل في الأوساط الأكاديمية والطبية، هنالك صعوبة في تعامل أستاذ الجامعة مع الطالبات، إن كان لا يستطيع رؤية وجوههن، وتلك قضية اتصالية معروفة، وهنالك قضية تتفاعل في بريطانيا حول استيعاب الطلبة للدروس من معلمات مُنقبات، ذلك أن الطلاب لا يستطيعون تحديد نطق المعلمة للكلمات والألفاظ! وهذه قضية اتصالية ثانية. وفي المجال الطبي، لا زال الحديث يدور حول مصداقية الطبيبة أو الممرضة وقدرتها على التفاعل مع المريض إن كانت منقبّة! وطبيعة الحياة أن يتعامل الإنسان مع الآخر بالتعرف على وجهه والوثوق في ملامحه، وكيفية خروج الكلمات من فيه! لن أتحدث عن الجوانب الاجتماعية "السلبية" التي تتم من خلال لبس النقاب، لأن الموضوع واضح، حيث يتم استغلال النقاب لنوايا ونوازع بعيدة عن الدين والاستقامة. في مجال القانون مثلاً.. أتساءل فقط: هل تمْثُلُ المتهمة أو المُجرمة أمام القاضي دون التحقق من وجهها؟ هذا مجرد سؤال! في المجال الطبي! لو كانت امرأة تعاني مرضاً في عينها أو أنفها أو فيها.. هل سيجري الدكتور عملية لها وهي منقبّة؟ أم تنتظر كي تقوم بالعملية امرأة.. ويأتون بفريق العملية كله من النساء؟ ويتم إنشاء مستشفى خاص بالمنقبات؟ ومدارس للمنقبات.. وجامعة عربية للمنقبات، وأمم متحدة للمنقبات؟ هنالك فرق واضح بين الاحتشام، وسلْكِ درب الأمان بالنسبة للمرأة، وبين (التعصب في الزي)، وأنا أعتقد أن ذلك من الحريات الشخصية التي لا يجب أن تُسيَّس، أو يتخفى وراءها من ينتمون إلى جماعات تكره الآخر، أو تحاول استفزاز النظم المحلية في أوروبا وأميركا، من أجل خلق مصادمات، وحكايات لن تخدم الإسلام الحقيقي. فنحن في العالم العربي نمنع غير المسلمين من تناول الأطعمة في الأماكن العامة في رمضان (أي المجاهرة بالإفطار)، ولدينا قوانين تفرض على الأجانب وغير المسلمين احترامها! فلماذا نحتج ونقاوم قوانين البلاد الأوروبية إن هي نظرت إلى "التميّز الديني" ومنه لبس النقاب نظرة شك، أو اعتبرته مخالفاً لقوانينها؟ هل نحن أفضل من البشر الآخرين؟ ثم لماذا الغلو في هذه القضية! هل سيتصور البعض أن على جميع المسلمات لبس النقاب؟ ويتحول المجتمع النسائي الإسلامي إلى قوة مُعطلة، خصوصاً في الوظائف والمهن؟ هل نتصور أن يظهر تلفزيون مُنقّب؟ وتخرج علينا المذيعة تقرأ الأخبار وهي منقبة؟ هل نتصور أن تعالجنا طبيبة وهي منقبّة ونحن لا نعرف شخصيتها ولا نثق في كلامها؟ والثقة في الطبيب من أوليّات العلاج؟ نحن ندرك أن هنالك نساء مسلمات، ما إن يركبن الطائرة حتى يخلعن العباءة ويرمينها في الشنطة، ويبدأن التمايل بالجينز "الضيق" والبودي الكاشف. لأن هنالك حالة -في المجتمع العربي- لا تفرق بين الحرية الشخصية وقمع المؤسسات المتعصبة، وهذا يُنتج ردة الفعل السريعة والغاضبة! القضية كل القضية هي التعصّب.. وعدم الالتفات إلى يُسر الدين، وتجاهل الآيات التي تحثّ على الوسطية واليُسر في الدين، وهذا ما جَناهُ بعض الوعاظ الذين لا يرون في الدنيا خيراً البتة، ويتجاهلون حديث النبي صلى الله عليه وسلم حول قيام الساعة، وأهمية زرع الفسيلة من قبل المسلم حتى مع قيام الساعة، وهو أمر بإعمار الكون وحب الحياة واستمراريتها.