بين كل ما تذكره الإحصاءات الصادمة المرتبطة بالحرب الإسرائيلية على لبنان، يبقى أكثرها هولاً العدد الكبير من القنابل العنقودية التي أُسقطت على لبنان. والقنبلة العنقودية لمن لا يعرف ذلك تتكون من علبة تنفتح لتطلق المئات من القنابل الصغيرة التي تتشتت في جميع الأنحاء وتنفجر على امتداد رقعة واسعة لتمطرها بالمعدن المصهور والمواد السامة التي تهلك الحرث والنسل. غير أن 40% من تلك القنابل التي أسقطتها الطائرات الإسرائيلية، وكثير منها من صنع أميركي، بقيت دون أن تنفجر لدى اصطدامها بالأرض مع إمكانية انفجارها كلما احتكَّ بها جندي أو مزارع، أو راعي أغنام، أو حتى طفل انجذب إلى بريق المعدن المتوهج في الأرض... وتعتبر القنابل العنقودية من حيث التعريف قنابل تفتقد إلى الدقة وتطلق أساساً عندما يراد إلحاق ضرر بالغ بمنطقة واسعة. وإذا لم يكن بمستطاع القنابل العنقودية التفريق بين المدنيين والعسكريين أثناء إسقاطها، فهي قطعاً غير قادرة على التمييز بينهم عندما تبقى مغروسة في الأرض شهوراً بعد إسقاطها دون انفجار لتقتل وتشوِّه كل من يمر بها. وقد عبر "جان إيجلاند"، نائب الأمين العام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، عن صدمته لحجم المشكلة عندما عرف أنه توجد أكثر من 100 ألف قنبلة عنقودية لم تنفجر بعد من مخلفات الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وهي موزعة على الأراضي اللبنانية وتهدد حياة الآلاف من المواطنين. ولم يخفِ المسؤول الدولي تذمره مما حدث، قائلاً: "إن الصادم حقاً، بل وغير الأخلاقي أيضاً، هو أن 90% من القنابل العنقودية تم إسقاطها في الـ 72 ساعة الأخيرة من الصراع عندما أصبح واضحاً أن قرارا وقف إطلاق النار بات وشيكاً، وعندما اقترب الصراع من النهاية". وجاء كلام المسؤول الأممي في 30 أغسطس الماضي بعدما اكتشفت فرق الأمم المتحدة 359 موقعاً للقنابل العنقودية غير المنفجرة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت المشكلة أكثر حدة ووضوحاً إثر اكتشاف 770 موقعاً نتيجة القصف المكثف للطيران الإسرائيلي الذي تقول التقديرات الأممية إنه أسقط ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين قنبلة على لبنان، منها مليون قنبلة لم تنفجر بعد. وتشير التقديرات إلى أن عدد القنابل التي لم تنفجر يفوق عدد السكان في جنوب لبنان، حيث تختبئ بين حقول التبغ وبساتين الزيتون وفوق رفوف البيوت وتبقى مزروعة في ركام المباني. وحسب فريق الأمم المتحدة العامل في لبنان، فإن تلك القنابل تتسبب في جرح من شخص إلى شخصين يومياً، كما أنها قتلت 20 شخصاً منذ التوصل إلى وقف إطلاق النار في أغسطس الماضي. وقد اعترف أحد قادة الجيش الإسرائيلي في تصريح لصحيفة "هآرتس" بما جرى، حيث قال: "إن ما قمنا به كان مهولاً وصادماً؛ لقد غطينا بلدات بأكملها بالقنابل العنقودية". وكما أشار إلى ذلك المسؤول الأممي "إيجلاند"، فقد أُسقطت معظم تلك القنابل خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من الحرب، في وقت كان قد تم فيه الاتفاق على قرار الأم المتحدة بوقف الاقتتال. وعندما شارفت المعارك على الانتهاء، وبعد أن تأكد الجميع أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها من شن حملتها العسكرية. وبإسقاطها في وقت متأخر من الحرب، فإنه يصعب تصور الغرض الحقيقي الذي كانت ستحققه القنابل العنقودية، بل يبدو أنها جاءت كرد فعل أخير ومجاني في حرب رمت في الأساس إلى معاقبة المدنيين. فمن بين 1200 قتيل لبناني في الحرب كان معظمهم من المدنيين، ومن بين كل ثلاثة قتلى سقطوا بسبب نيران إسرائيلية، يوجد طفل أُزهقت روحه. ومع بقاء أكثر من 100 ألف من مواطني الجنوب اللبناني في مناطقهم دون قدرة على الهرب بسبب استهداف إسرائيل للطرق، أعلن وزير الحرب الإسرائيلي أن جميع الرجال والنساء والأطفال الذين كانوا يحاولون الهرب هم من "الإرهابيين المرتبطين بشكل أو بآخر بحزب الله"! ولم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل قام جيشها بإسقاط منشورات تحذر السكان من التحرك جنوب نهر الليطاني، حيث كان رئيس هيئة أركان الجيش واضحاً عندما صرح قائلاً: "لا أحد بمنأى عن النيران". وبحسب الإحصائيات التي كشفت عنها الأمم المتحدة قامت إسرائيل بسبعة آلاف طلعة جوية وأطلقت 160 ألف قذيفة مدفعية، وهو ما يشكل طلعتين جويتين و40 قذيفة مدفعية لكل ميل مربع من إجمالي الأراضي اللبنانية. هذا ولم يكن العقاب الإسرائيلي موزعاً بالتساوي بين جميع اللبنانيين، بل انصب على القرى الشيعية في الجنوب وعلى الضاحية الجنوبية في بيروت ذات الغالبية الشيعية أيضاً! ساري مقدسي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"