بدايةً، كلَّ عام والجميع بخير، ما بين رمضان والعيد يخبر عنا وعن واقعنا الكثير. وبعيداً عن الأوضاع السياسية الدامية والمؤلمة في عالمينا العربي والإسلامي ومن نذر التصعيد والحروب والمنازلات والتحدي المحيطة بالعالم من كل حدب وصوب، أريد أن أغوص في أمور وقضايا أخرى. لن أتحدث عن الهيمنة الأميركية وفقدان الهيبة والسطوة ولا عن الأمين العام الجديد للأمم المتحدة. لن أتناول كوريا الشمالية التي تفضل السلاح النووي على إطعام شعبها الجائع الضائع في سعيها للهيبة والتوازن والاحترام، وتحولها لسابقة لمن يسعى للزعامة ومقارعة القوى الكبرى. ولن أخوض في الملف النووي الإيراني وسياسة الهيمنة والتسيُّد. ولا عن العراق الغارق في أتون حرب طائفية مدمرة تهدد بامتدادات إقليمية وتتحدث أميركا عن زيادة أعمال العنف في رمضان أكثر من 22%، ولا عن الانتخابات الأميركية المُحرجة والتي ستطيح بحزب الرئيس بوش وتحوله حسب القول الأميركي إلى بطة عرجاء مبكراً. ولا عن الانتخابات في دول المنطقة والمجازر الصهيونية في فلسطين ووضع حافة الهاوية في لبنان، فلهذا كله مقالات ووقفات قادمة، إن شاء الله. بل سأتحدث عن معاني وروحانيات شهر رمضان الذي رحل بالأمس لفئة هي الأكبر من المسلمين بعد صيام ثلاثين يوماً. رحل شهر رمضان، شهر العبادة والرحمة والمغفرة والعتق من النار. الشهر الذي يترك للنفس فرصة لتتهذب وتتخلص من أسر الروتين. إنه شهر يذكرنا جميعاً بالأمور التي من خلالها تسمو الحياة وتكون أفضل. ومثلما هي عادتنا كعرب ومسلمين فلقد اختلفنا ككل رمضان وكل عيد. اختلفنا دولاً وطوائف حول بدء ونهاية الشهر وبدء العيد، في مشهد يتكرر عاماً بعد عام، ويذكرنا بتشتتنا وتفرقنا، وكيف ينظر ويقرأ الآخرون هذا التفرق؟ لا بل هذه السنة في دول كالعراق ولبنان والكويت والبحرين وغيرها، وصل التفرق والتشتت إلى داخل الدولة نفسها بين سُنة وشيعة حول هلال رمضان وبدء العيد، في تنافر واضح على أسس مذهبية تكرِّس الانقسام والتفكك، وهذا أمر مؤسف ومحبط. تزامن رمضان هذا العام مع بدء العام الدراسي فأصيبت بداية العام بعدم الانتظام والارتباك، وسط عودة المطالبات السنوية عندنا في الكويت وفي دول أخرى بأن نحذو حذو السعودية بمنح عطلة مع بدء العشر الأواخر. وقدمت الحكومة دراسة بأن ذلك يكلف الدولة 100 مليون دينار فلم توافق الحكومة، مما أغضب المواطن والبرلمان. العادة المستحدثة منذ سنوات والتي باتت تشتت وتسرق الكثير من روحانيات وعبادة هذا الشهر الفضيل هي تنافس الفضائيات العربية على عرض الدراما والفكاهة والمسلسلات التي تمضي بقية العام في التحضير والإعداد لها لتقدمها وليمة طوال أيام شهر رمضان للمؤمن المتعبِّد. ولا أدري ما هي الحكمة في ذلك؟ ولماذا يتم اختيار شهر رمضان بالتحديد لعرض "النفائس" و"الدرر"؟ ومنافسة الطاعة والعبادة؟ ولكن على ما يبدو هناك دراسات واستطلاعات للرأي تؤكد أن للتسلية عوائد مربحة ووفيرة، فلذلك ستبقى هذه العادة تلازمنا في كل رمضان مع دعايات الأكل والحساء والحلويات التي تعرض في الأوقات المستقطعة. ولكن ما عوضنا من ذلك التشتت، كانت الانغماس بالروحانيات الإيمانية المؤثرة والأكثر من رائعة التي عشناها في العشر الأواخر، من أداء للعمرة وصلاة القيام أو متابعتها من الحرم المكي من خلال شاشات التلفزة. كل ذلك أعطانا مشاعر وتجليات إيمانية من الصعب شرحها وفهم مغزاها وأبعادها لمن لم يعشها. مشاهد من رمضان والعيد تتكرر كل عام، ونختلف فيها حول الرؤية، والبداية والنهاية. وتتنافس على أذواقنا المسلسلات وأطايب الطعام، فيما نخشى أن يجرد رمضان من معناه وأهدافه وهو ترويض وتهذيب النفس ومعايشة الجوع والعطش والشعور مع الفقراء والجوعى والعطشى. ومع تزايد التنافر السياسي والمذهبي والصراعات السياسية، يأتي رمضان كل عام ليطل علينا على مدى شهر ويقيم معنا -ويشهد على كل تلك المشاهد المتنوعة- ثم يغادرنا ليعود بعد عام وليرانا على حالنا إن لم نزدد اختلافاً وتفرقاً. فالله المستعان، وكل عام والجميع بخير، وإلى رمضان القادم الذي نأمل أن نرى ونشهد فيه خلافات ومشاحنات ومنغصات أقل، مع شكي الكبير في ذلك.