الأزمة الفلسطينية الراهنة ليست هينة ولا سطحية, وهي أخطر وأعمق مما تظن "فتح" و"حماس" معاً. أبعاد هذه الأزمة متداخلة بشكل مذهل، سواء تنظيمياً على مستوى كل من الحركتين, أو على مستوى الداخل الفلسطيني برمته, أو على مستوى الصراع مع إسرائيل, أو مستوى العلاقة مع المحيط العربي (حكومياً وشعبياً), أو مستوى التبدلات الإقليمية بما فيها تصاعد النفوذ الإيراني ونتائج حرب لبنان والمأزق الأميركي في العراق. فتنظيمياً, نجد أن "فتح" منقسمة على ذاتها إلى تيارات ومجموعات متنافسة, إذ لم تستوعب بعد دروس الهزيمة الانتخابية لتعمل على إصلاح نفسها وبما يعيد استرجاع بعض الثقة التي خسرتها في أوساط الشعب الفلسطيني. و"حماس" ما زالت مصدومة بفوزها في الانتخابات وتتعامل مع الوضع بتوتر جذره الأهم عدم نجاحها حتى الآن في تقديم "البديل" الذي كانت دوماً تعد به الفلسطينيين, وجذره الأقل أهمية الشد والجذب بين "حماس الحكومة" و"حماس الحركة". على مستوى الداخل الفلسطيني كلتا الحركتين تقدم المصلحة التنظيمية على الوطنية. فـ"فتح" تبدو وكأنها مستعدة للمغامرة بتدمير البيت الفلسطيني في صراعها ضد حكومة "حماس"، والموقف من إضراب المعلمين دليل على ذلك. فالتعليم الذي هو الأقنوم المقدس عند الفلسطينيين أصبح وسيلة للصراع الحزبي السقيم. "حماس" أيضاً تقدم المصلحة التنظيمية على الوطنية عبر تمسكها بالسيطرة التامة على حكومة تعلم هي قبل غيرها أنها لا تتعدى "الحكم الذاتي" الذي لا يتمتع بأي سيادة, ناهيك عن أن يتم تركيب برنامج "حماس" حول "المقاومة والتحرير الشامل" على رأس هذا النظام السياسي المحدود القدرة, وضعيف التحمل. وتبدو "حماس" مستعدة للذهاب إلى آخر الشوط, كما تبدى في استخدام القوة التنفيذية في قطاع غزة, من أجل البقاء في الحكم. هدف "حماس" كان الحصول على حجم لا يقل عن 40% من مقاعد المجلس التشريعي يمكِّنها من لعب دور المراقب والمحاسب للسلطة الفلسطينية, ولم تخطِّط أو تستعد لاستلام الحكومة. ما الذي يضيرها أن تعود إلى ذلك الهدف الأول الذي تستطيع التصالح معه, ومن دون أن تحترق بنار التناقضات التي تحيط بها من كل مكان الآن؟ إسرائيل من طرفها تبدو وكأنها معفاة دولياً وسياسياً من المسؤولية, وقد نجحت في إبقاء الكرة في الملعب الفلسطيني. وبدا الأمر الآن وكأنه مرتبط بـ"حماس" والفلسطينيين واعترافهم بإسرائيل وإدانة نضالهم السابق والاعتراف بالاتفاقات السابقة. فيما إسرائيل نفسها هي التي رفضت المبادرة العربية للسلام، وهي التي فرغت عملياً وواقعياً كل الاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، وتزعم الحرص عليها الآن. مسؤولية "حماس" تقع بالدرجة الأولى في هذه النقطة, أي إعادة الكرة إلى الملعب الإسرائيلي, وخاصة كرة المبادرة العربية للسلام. فما دامت إسرائيل ترفضها، فلماذا لا تواجه العالم بهذا الرفض وتتحمل تبعاته عوض أن تختبئ خلف رفض حكومة "حماس" لتلك المبادرة. من حق "حماس" الحركة أن تصر على عدم الاعتراف بإسرائيل, والتحفظ على المبادرة المذكورة, لكن ليس من حقها أن تفرض ذلك على "حكومة الحكم الذاتي" التي هي نتاج الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل أصلاً. المصير الفلسطيني يجب ألا يكون مربوطاً بالحكومة الفلسطينية, بل بمنظمة تحرير فلسطينية جديدة مصوغة تبعاً للتغيرات الهيكلية والشرعيات المتبدلة التي حدثت على أرض الواقع خلال العشرين سنة الأخيرة. يحتاج الوضع الفلسطيني على الجبهة مع إسرائيل إلى فترة تنفس، تُسلم فيها الحكومة إلى فريق تكنوقراط لمدة زمنية محددة، وخلالها تتفاوض "حماس" و"فتح" والفصائل الأخرى وبقية الشرائح الفاعلة في المجتمع الفلسطيني، على مشروع وطني عام لقيادة الشعب الفلسطيني. على "فتح" وعلى "حماس" أن تعترفا بأنه ليس بإمكان أي منهما منفردة, اقتراح مشروع وطني يتم التوافق عليه من قبل السواد الأعظم للشعب الفلسطيني. من الضروري أن يكون هذا المشروع جمعوياً شاملاً. ولكن من الصعب تخيل بروزه في جو الاحتقان والتوتر والاتهامات المتبادلة، بما يقترب من أجواء الحرب الأهلية. مشروع "فتح" في أوسلو أثبت فشله, وهو فشل لا يحتاج إلى سوْق أدلة. ومشروع "حماس" فشل هو الآخر في جمع "المقاومة والسلطة" وليس له أفق في النجاح. فالسلطة, وبكل بساطة, هي الوريث شبه الوحيد لـ"أوسلو" المندثر, وهي في نهاية المطاف تقع تحت رحمة الطرف الإسرائيلي, وشرايين حياتها بل وحتى رواتب موظفيها ورجال أمنها, كما اكتشفت "حماس" لاحقاً, يجب أن تمر عن طريق الصراف الإسرائيلي. لذلك فمن العبث أن تظن "حماس" أنه بإمكانها مواصلة الجمع بين "المقاومة والسلطة"، إذ أن لكل منهما اشتراطاته. المناخ العام في المنطقة لا يساعد على بروز عقلانية فلسطينية مطلوبة في الوقت الراهن. فعناصر هذا المناخ قد تغري بقراءة خاطئة, سواء من قبل "حماس" أو من قبل "فتح". فـ"حماس" قد تقرأ في تنامي نفوذ وقوة إيران وبروز ما يُسمى "قوس الممانعة" (طهران, دمشق, "حزب الله", "حماس") ما يشجعها على مزيد من التصلب في مواقفها بمظنة أن الجيوبوليتيكا الإقليمية تتغير جذرياً في المنطقة, وأنه في ضوء نتائج حرب إسرائيل ضد لبنان فإنه بإمكان المقاومة أن تحقق إنجازات استراتيجية على الأرض. وبناء على هذه القراءة تتمسك "حماس" بالحكومة وفق الشروط التي تراها. هنا على "حماس" أن تجيب على سؤالين: الأول، ماذا لو توصلت إسرائيل وسوريا في المدى القصير أو حتى المتوسط إلى اتفاق سلام يقضي بإعادة الجولان وهو ما يدعو له كثيرون في إسرائيل الآن بهدف قطع الطريق على إيران وضرب "قوس الممانعة" في الوسط منه؟ السؤال الثاني: ماذا لو توصلت إيران والولايات المتحدة إلى صيغة توفيقية بشأن الملف النووي للأولى أو بشأن نفوذها في المنطقة؟ نفس المناخ الإقليمي أيضاً قد تقرؤه "فتح" قراءة خاطئة؛ فهي تراهن على تطور محور مضاد لمحور إيران /سوريا /"حزب الله" /"حماس", هو محور "الاعتدال" المكون من مصر, والأردن, والسعودية, والرئاسة الفلسطينية, والمدعوم من الولايات المتحدة. وفي ضوء قيام هذا المحور, بحسب القراءة "الفتحاوية" المتسرِّعة, فإن عمر "حماس" في الحكومة سيكون قصيراً لأنه ليس بمقدور محور "التشدد" الداعم لـ"حماس" الوقوف طويلاً أمام الضغط الأميركي- العربي (المعتدل). مشكلة هذه القراءة أنها ذات أكلاف عالية شعبياً وانتخابياً, ذاك أنه باصطفاف "فتح" العلني في هذا المحور فإنها تزيد من غربتها الشعبية, وربما تدفع ثمناً باهظاً في أية انتخابات قادمة, خاصة في ضوء تفككها المتزايد. علاوة على ذلك, فإن السؤال الإيراني الذي على "حماس" الإجابة عنه، يواجه "فتح" لكن بطريقة معكوسة، وهو ماذا لو فرضت إيران نفسها على المنطقة كقوة إقليمية ذات نفوذ وذات قوة نووية، رغم إرادة الولايات المتحدة, وكرست "محور التشدد" وصار هذا المحور معلماً دائماً من معالم المشهد الإقليمي؟ وفي كل الأحوال فإن الانشطار العمودي في الساحة الفلسطينية بين "حماس" و"فتح" لن يقلل منه تحقق أي من القراءتين على حساب الأخرى. مصلحة القضية الفلسطينية في الوقت الراهن هي ألا ترتبط بالتمحور, ولو كان هناك حكماء في "حماس" و"فتح" لخرجوا بصيغة مشروع وطني يقي الفلسطينيين الشظايا التي ستتناثر في كل الاتجاهات جراء أي ارتطام بين المحورين هنا أو هناك. وهذا لا يتم إلا في أجواء بعيدة عن الصراع حول الحكومة. لهذا فإن حكومة تكنوقراط لمدة سنة، ربما توفر جواً من الهدوء النسبي للتفكير بعقلانية ووطنية أعلى وبفصائلية وحزبية أقل! Classifications Comments and Actions Present in Collection Proofed. Originally received in RAPIDBrowser on Fri 20 Oct 2006 23:43 GST This item was derived from: خالد الحروب/الاثنين/23/10/2006