كلام السيد الخامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، لا ينبغي أن يُنسى أو يُعامَل باستخفاف معاملة الكلام العالي الوتيرة أحياناً على الساحة اللبنانية. هو في المضمون لا يختلفُ كثيراً عن كلام الرئيس بشار الأسد، وكلام السيد حسن نصرالله، بل وكلام العرب فيما بينهم إبّان انقسامات الحرب الباردة، وصراعات "التقدميين" مع "الرجعيين". إسلاميو اليوم في نظر السيد الخامنئي هم تقدميو الأمس، وهم منحصرون في المشرق العربي بـ"حزب الله" (والسيد حسن نصرالله هو الزعيم العربي لهذه الجبهة التي يقودها السيد الخامنئي)، وحركة "حماس" وإلى حدٍ ما النظام السوري. أما الآخرون فقسمان، قسم صار عميلاً فعلاً، والقسمُ الآخر يجري تحذيرُهُ من أن يقع في أسْرِ اليهود أو الأميركيين بالخدائع والإغراءات. ولستُ أعطي في هذا السياق أهمية خاصة لمسألتين اثنتين، يحاولُ من خلالهما بعض خصوم إيران النَّيْلَ منها: مسألة العروبة، ومسألة التشيع. فإيران بحكم الواقع، وليس بحكم الأصول والأهداف، دولة عربية الآن في الشرق الأوسط الجديد، والخامنئي سيّد، أي أنه عربيٌ أصيل، ولذلك ليست لديَّ مبدئياً حساسية خاصة نتيجة التدخل الإيراني في الشؤون العربية. أما المسألة الأخرى، أي ما يُقال عن مساعٍ محمومةٍ من لبنان وسوريا وحتى آسيا الوسطى لقلب بعض السنة إلى التشيُّع، فأنا أرى في ذلك مبالغة كبيرة، وعلى أي حال، عدد المسلمين في العالم حوالي المليار والثلاثمائة مليون، منهم 160 مليون شيعي إمامي، و40 مليوناً من طوائف صغيرة، والبقية من أهل السُّنة -ولن تقوم القيامة إن صار عدد الشيعة مائتي مليون بالتبشير والدعوة كما يقال. بل إن المشكلة مع التصوُّر الإيراني لمشكلات العرب والمسلمين، ومنهج التصدي لها بالمعالجة والتقويم. لقد فهمتُ من كلام السيد الخامنئي والسيد نصرالله وآخرين كثيرين من عربٍ ومسؤولين إيرانيين، أن نهج المقاومة هو الذي انتصر من وراء خطف "حماس" للجندي الإسرائيلي وإلى حرب "حزب الله" على إسرائيل بخطف الجنديين وصولاً إلى قانون الأقاليم أو الفيدرالية بالعراق. والانتصار هذا لا يمكن أن يبقى مسألة رأي، بل هو واقع على الأرض. والواقع على الأرض أن خطف الجندي الإسرائيلي أدى إلى قتل مئات الفلسطينيين وتخريب نصف قطاع غزة إلى الآن، وإسرائيل تهدد بتخريب باقي القطاع بعد تصاعد مخاوفها من إمكان تكديس "حماس" سلاحاً شأن ما فعله "حزب الله". وقد كان المعروض على الفلسطينيين أو "حماس" أمران: تبادل للأسرى يُطلقُ بمقتضاه سراح أكثر من خمسمائة فلسطيني من السجون الإسرائيلية، وإيقاف الهجوم والتوغل في غزة إن توقفت الصواريخ ضد المستوطنات. وقد وصلت المفاوضات مع المصريين إلى حدود القبول أو شبه القبول، ثم اضطر خالد مشعل للرفض بضغوطٍ سورية وإيرانيةٍ، عاد المصريون والأوروبيون محاولين تذليلها في الأيام الماضية. سيقول المعترضون على هذه الطريقة في الفهم: لكن ما الذي كان معروضاً على الفلسطينيين قبل خطف الجندي: الشعب الفلسطيني محاصر، وهجمات الطيران الإسرائيلي والمقنّعين لم تتوقف. نعم، هذا صحيح، لكن كل الجو العالمي كان ضغط على أميركا والأوروبيين وإسرائيل لفكّ الحصار، إعجاباً بالديمقراطية الفلسطينية التي أتت بحماس -وإن تكن متطرفة- للسلطة. وما كان كثيرون يأملون من "حماس" أن تعترف بإسرائيل، وكان أولمرت ما يزال يتحدث عن خطة الانطواء. وكانت وثيقة الأسرى الفلسطينيين مجال لقاء بين سائر الفصائل، ثم جاءت فجأة عملية خطف الأسير، التي أوقفت كل الجهود والآمال، وأطلقت يد إسرائيل في المزيد من التخريب. وهكذا فالواضح أن عملية الخطف ما كان المقصود بها الإرغام على فكّ الحصار، ولا حتى متابعة أعمال المقاومة، بل كان الهدف إفشال التهدئة والتقاط الأنفاس في فلسطين حتى لحكومة "حماس"، للانطلاق بعدها على الأقلّ إلى المفاوضة على "خريطة الطريق". وفي سياق التصعيد (تصعيد المقاومة طبعاً) حدثت عملية "حزب الله" بنفس أسلوب الأسر في غزة، وقادت إلى الحرب الهائلة على "حزب الله" وعلى لبنان. فأين كانت الفائدة، وقد قتل ما يزيد على الألف، وتخربت أجزاء كبرى من البلاد، بل وازدادت مساحةُ الأراضي المحتلة؟ ماذا استفاد الإخوة في فلسطين من عملية "حزب الله" ما داموا لم يستفيدوا من عملية غزة؟ وماذا استفاد العرب والمسلمون من حرب لبنان؟ سيقول أنصارُ الحزب: الانتصار استراتيجي، وصراعنا مع إسرائيل استراتيجي، ولا ينبغي الاهتمام بالتفاصيل، وإسرائيل كانت تريد شنّ حرب علينا على أي حال! نعم، ما استطاعت إسرائيل هزيمة "حزب الله"، لكنها أفادت من درس الثبات، وغيّرت سياستها تجاه لبنان وتجاه فلسطين وتوشك أن تفعل ذلك تجاه سوريا. إنما السؤال: لماذا شنّ "حزب الله" حربه في الأصل؟ السيد نصرالله ذكر أسباباً متفاوتة ومتدرجة ومختلفة في كلماته الثلاث الأولى في بداية الحرب. وقد تحدثت إيران وسوريا وتصرفتا على أساس الشراكة مع الحزب في تلك الحرب، بدليل أن الطرفين يطلبان أثماناً لذلك حتى الآن من العرب والمجتمع الدولي. وإذا تأملنا المشهد بدقةٍ يتبين لنا أن الطرفين الأكثر تضرراً كانا وما يزالان: الفلسطيني واللبناني، واللذين تجري باسميهما كلُ تلك الحروب والنزاعات. الفلسطينيون ازدادوا تعرضاً للهجمات، وازدادوا انقساماً، وهم اليوم على مشارف الحرب الأهلية. واللبنانيون، وبعد تخريب بلادهم وانطلاق موجة جديدة من الهجرة لفقد الأمل بالمستقبل، وقعوا في مشكلةٍ داخليةٍ مستعصيةٍ يقودها "حزب الله"، لتعذُّر استمرار المواجهة أو التوتير من خلال الهجوم على إسرائيل، أي أن المطلوب إضافة لبنان باعتباره ورقة -بأي شكل: بصدم إسرائيل أو بالتوتير الداخلي- إلى "نهج المقاومة" بالمنطقة. أما في العراق، وإقرار البرلمان العراقي لقانون الأقاليم والفيدرالية، فالمعروف أن الذي قاد هذا المشروع منذ البداية "المجلس الأعلى"، أكبر الأحزاب الشيعية، وأكثرها ولاءً لإيران. وقد توافَقَ الإيرانيون والأميركيون والأكراد (عام 2003/2004 قبل الصدام) على هذا الأمر، وجرى إقرارُهُ الآن بطريقة ديمقراطية! وأنا أفهم أن يُسرّ الأكراد لذلك، فهم يطالبون بدولة مستقلة والمشروع الفيدرالي دون طموحهم. لكنني لا أفهم كيف يريد الشيعة العراقيون وهم الأكثرية الساحقة في الشعب العراقي (هكذا قال عبدالعزيز الحكيم، وهكذا قال خصمه مقتدى الصدر) تقسيم الدولة التي يمكنهم ديمقراطياً السيطرة عليها كلها؟! لا يمكن أن يقبل ذلك عراقي عربي شيعياً كان أم سُنياً، إلا كما كان السُّنة والشيعة يقبلون كل ما يقوله السوريون في زمن الوصاية خوفاً من الاتهام بالعرفاتية أو الموسادية! إيران تريد دولة صغيرة وضعيفة على حدودها، فيها بعض آبار البترول، وفيها الأماكن الشيعية المقدسة. أما الدولة العراقية الواحدة فيمكن أن تعود لشيء من القوة، فتعيد الذكريات القاتمة لأيام صدام حسين، حتى لو كانت قيادتها شيعية! ثم لماذا لا يُراعِ الإخوة في إيران حليفتهم سوريا في مسألة الفيدرالية هذه؟ ألا يعلمون أن الفيدرالية العراقية يمكن لها أن تُقسّم سوريا، بل بالأحرى، يمكن لها أن تنقل إليها الصراع الإثني والطائفي الناشب بالعراق؟ ثم كيف يستقيم القولُ الآن إن سبب كل مشكلات العراق الداخلية الاحتلال الأميركي، وأنصارُ إيران الفيدراليون ما أطلق واحد منهم رصاصة واحدة على ذلك الاحتلال؟ ثم هل يأبهون فعلاً لإيقاف سفك الدم بالعراق، وهم يعلمون أن قانون الأقاليم هذا هو أفضل الوصفات للحرب الأهلية الطاحنة التي لا تُبقي ولا تذر؟! لا فائدة في الحساسات المذهبية أو القومية، لأنها لا تضرُّ بإيران، بل تضرُّ بنا وبوحدة بلداننا وتماسكها. لكن "نهج المقاومة" هذا، وبهذه الطرائق، والأدوات (تحالف الأصوليات السُّنية والشيعية أو استثارتها وتضاربها) هو نهجٌ للانقسامات الداخلية (لأن الأصولية في الأصل انشقاقٌ داخليُّ مذهبياً ووطنياً)، وهو يُضرُّ بوحدة أوطاننا وأمتنا، ويستفيد منه في النهاية الأعداء الحاضرون والمحتملون. ولا حول ولا قوة إلا بالله.