قبل انتقاله إلى اليونان العام الماضي بفترة قصيرة، تلقى أميركي يدعى "جون إيكونوبولي" الخبر غير السار المتمثل في ضرورة خضوعه لعملية جراحية. ولهذا الغرض، قصد أحد المستشفيات في شمال ولاية كاليفورنيا، لكن للأسف لم تكلل العملية بالنجاح، حيث ذهب "إيكونوبولي" إلى منزل أحد الأصدقاء قصد المكوث عنده فترة النقاهة، ليكتشف أن جرحه انفتح من جديد. يقول: "لقد استيقظت وسط بركة من الدم ولم أعرف ماذا أفعل"، مضيفاً "شعرت بأن المستشفى لم يقدم لي العناية اللازمة". وقد دفع "إيكونوبولي" أكثر من 2000 دولار علاوة على آلاف الدولارات التي دفعتها شركة التأمين. بعد ذلك ببضعة أشهر، انتقل إلى اليونان، وسرعان ما اكتشف أنه في حاجة إلى عملية جراحية أخرى، وهو أمرٌ يشكل فرصة، غير مرغوب فيها ربما، لعقد مقارنة بين النظامين الصحيين الأميركي والأوروبي. وفي هذا الإطار، يقول "إيكونوبولي" إن المستشفى اليوناني كان أقل نظافة من نظيره في كاليفورنيا؛ وإنه وُضع في غرفة رفقةَ مجموعة من المرضى الآخرين. وكانت الرائحة تزكم الأنوف. وعندما طالب "إيكونوبولي"، مهندس برامج الكمبيوتر في بورصة "وول ستريت"، بالمزيد من الخصوصية قائلاً إنه سيدفع المزيد مقابل وضعه في غرفة لوحده، ضحك الموظفون لذلك. غير أن العناية نفسها هي قصة أخرى، إذ تبدو أفضل وأوفر من العناية التي تقدمها المستشفيات في الولايات المتحدة؛ فقد أمضى "إيكونوبولي" يوماً كاملاً قبل العملية في إجراء الفحوصات والاختبارات، ومنها فحص وجد أنه يعاني من عدم انتظام دقات القلب؛ كما أمضى اليوم الذي تلا العملية في الخضوع للمراقبة بالمستشفى. ثم إنه بالرغم من عدم توفره على تأمين صحي يوناني، إلا أن الفاتورة النهائية لم تتعدَّ 700 دولار. لقد كتبت قبل بضعة أسابيع عموداً يجادل بأن الإنفاق الطبي المتزايد على مدى نصف القرن الماضي كان مناسباً عموماً وفي محله. ذلك أنه بفضل طرق العلاج الجديدة لكل شيء، من الولادة قبل الأوان إلى النوبات القلبية، أصبحت الحياة الإنسانية أطول –متحدية التوقعات- حتى بدون تحسن كبير في الصحة العمومية. غير أن ما يدعو للاستغراب هو أننا نتحدث عن الإنفاق الطبي كما لو أنه كان مجرد عبء على الاقتصاد، بدلاً من أن يُنظر إليه على أنه استثمار في أهم شيء على الإطلاق، ألا وهو صحتنا. في اليونان، تنفق الحكومة والأفراد معاً نحو 2300 دولار للشخص على الخدمات الطبية كل سنة؛ ويصل متوسط أمد الحياة إلى 79 سنة. وتنفق كندا، حيث المستشفيات أنظف ربما، 3300 دولاراً، ويعيش الناس إلى حوالي 80 عاماً. أما في الولايات المتحدة، فإننا ننفق 6000 دولار، ومع ذلك فإن أمد الحياة لا يتعدى 78 عاماً. يبدو أن الجواب على هذا اللغز معقد ومهم في الوقت نفسه؛ حيث ترتفع تكلفة العناية الطبية بشكل متزايد. كما أن الجيل المولود خلال الفترة من أواخر الأربعينيات إلى أوائل الستينيات والمعروف باسم (Babyboomers) يدخل اليوم أغلى السنوات من الناحية الطبية في حياته. وبالتالي فإنه فإذا كانت لدى بقية العالم شيء لتعليمنا، فعلينا تعلمه على نحو جاد. مما لاشك فيه أن أبرز فرق بين نظامنا الصحي ونظامهم الصحي –كون حكوماتهم توفر تأميناً شاملاً– يلعب دوراً كبيراً من حيث الفرق في التكلفة. ذلك أن البيروقراطية تلتهم نحو 25 في المئة من حجم الإنفاق العسكري، ولذلك لطالما ركز السياسيون الذين يرفعون شعار الإصلاح على هذه التكلفة. غير أن مشاكل البيروقراطية ليست حكراً على أميركا، ذلك أنه حتى في أنظمة أوروبا، فإن التكلفة الإدارية تمثل نحو 15 في المئة من حجم الإنفاق الصحي، بعدما يتم شمل كل شيء. وإلى جانب التكلفة الإدارية هناك اختلاف ثقافي أساسي، إذ يبدو أن الأميركيين أكثر رغبة في تجريب أي شيء تقريباً، مهما كان غالياً أو كانت فرص نجاحه ضئيلة، في سبيل إطالة أمد الحياة (الجدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة بلد أكثر تنوعاً ويتميز بالتفاوت الكبير من حيث الدخل، وهو ما يعقد مهمة نظامنا الصحي). لقد أصبحنا مهووسين بالتقدم الطبي، فحوّلنا هذا البلد إلى مختبر أبحاث بالنسبة للعالم. والواقع أن من تابع جوائز نوبل هذا العام، ربما لاحظ أن الجوائز العلمية كانت من نصيب الأميركيين. بل حتى جراحة "الفتق"، التي يعود أصلها إلى نحو 5000 عام، يقول "ريموند ريد"، الجراح المتقاعد الذي درس تاريخها، تستند اليوم بشكل كبير على طرق أميركية. وباختصار يمكن القول إن بعض إنفاقنا الطبي يخصص لدعم القطاع الصحي في دول أخرى. إن الأمر المهم الذي ينبغي تذكره اليوم هو أنه لا يمكن ترك الوضع على ما هو عليه؛ ذلك أنه بطريقة أو بأخرى –عن تبصر أو تسرع- سينتهي بنا الأمر إلى تقليص حجم الإنفاق المخصص للقطاع الصحي. والواقع أننا بدأنا في ذلك منذ فترة؛ ولعل هذا ما يفسر وجود 47 مليون أميركي لا يتوفرون على تأمين صحي. ديفيد ليونهارت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"