احتفلت بقدوم العام الجديد لسنة 1996 وأنا في مركز يونج بيونج النووي بكوريا الشمالية، حيث كانت تسعى إلى إنتاج البلوتونيوم لتجريبه لأول مرة في تفجير نووي. وعلى غرار العشرات من الموظفين الحكوميين المخلصين، كنت أعمل وقتها كمفتش للموقع النووي بموجب الاتفاق الموقع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية في 1994 الذي أصبح يعرف لاحقاً بـ"اتفاقية الإطار". وبالنسبة لمن هم مثلي ممن عملوا كمفتشين في الموقع النووي فإننا نحس بالفخر والاعتزاز لما حققناه. لذا لست وحدي الذي يشعر بالقلق من سعي بعض المعلقين والمسؤولين الحكوميين إلى إلقاء اللوم على الإدارة الأميركية السابقة وتحميلها مسؤولية الأزمة النووية الحالية مع كوريا الشمالية مستخفين بجهودها السابقة الرامية إلى وقف البرنامج النووي لـ"بيونج يانج" دون اللجوء إلى القوة العسكرية. ولابد من التأكيد أن جميع تلك الاتهامات التي تُكال للإدارة السابقة لا أساس لها من الصحة، كما أنها تقلل من مساهمة هؤلاء الأميركيين الذي خدموا وطنهم في ظروف بالغة الصعوبة. وبالرجوع إلى 1994 نجد أن العلاقة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بلغت من التردي إلى درجة أن إدارة الرئيس كلينتون استحضرت إمكانية توجيه ضربات عسكرية إلى كوريا الشمالية لمنعها من استخراج البلوتونيوم من الوقود النووي المستعمل في محطة "يونج بيونج". وقد كان بإمكان كوريا الشمالية في ذلك الوقت إنتاج قنبلة أو قنبلتين نوويتين بالنظر إلى كمية البلوتونيوم التي نجحت في إنتاجها، خاصة وأن الوقود المتبقي من المحطة النووية كان يحتوي على ما يكفي من البلوتونيوم لصناعة المزيد من الأسلحة النووية الفتاكة. غير أن محادثات الفرصة الأخيرة التي جرت بين الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر والرئيس الكوري الشمالي وقتها "كيم إيل سونج"، نزعت فتيل الأزمة وقادت لاحقاً إلى اتفاقية الإطار بين الطرفين. وهي الاتفاقية التي ساهمت في تجنب الخيار العسكري الذي كان سيؤدي إلى تدمير سيئول، كما جمدت البرنامج النووي لبيونج يانج، وكان يمكنها في النهاية أن تقود إلى تخلي كوريا الشمالية عن برنامجها النووي مقابل الاعتراف الدبلوماسي بها من قبل الولايات المتحدة ومنحها حوافز اقتصادية. لكن بحلول 2002 أكدت مصادر استخباراتية أميركية أن كوريا الشمالية بصدد العمل على برنامج لتخصيب اليورانيوم في خرق سافر لاتفاقية الإطار الموقعة مع الولايات المتحدة. وبدلاً من أن تسعى إدارة الرئيس بوش إلى تعزيز العمل بـ"اتفاقية الإطار" وإرجاع الروح إليها قامت بإلغائها نهائياً وشرعت تلوح بتغيير النظام في بيونج يانج. وبإلغائها لـ"اتفاقية الإطار" قامت الإدارة الأميركية بإقصاء إمكانية مهمة لاستئناف الحوار وسلوك المسار الدبلوماسي في حل الأزمة. فقد كانت إحدى أهم النقاط التي جاءت بها "اتفاقية الإطار" هي سماح كوريا الشمالية، التي كانت رسمياً في حرب مع أميركا، بدخول الأميركيين إلى المفاعل النووي ومراقبة الوقود النووي المتبقي، وضمان عدم استخدامه لإنتاج البلوتونيوم. وبعبارة أخرى ساهمت "اتفاقية الإطار" في وضع المفتشين الأميركيين في عمق كوريا الشمالية وخلف خطوط العدو. وكما يمكن التصور، لم يكن تواجدنا في تلك الظروف بكوريا الشمالية أمراً سهلاً، فبعد تسلمنا لمهامنا في البلد العدو، أقمنا لشهر أو أكثر في مبان شيدت على عجل تبعد عن موقع التفتيش بحوالي نصف ميل. وكان المفتشون العشرة الذين يتناوبون كل مرة على القيام بمهامهم يخضعون لرقابة مسلحة من قبل الحرس الكوري الشمالي، كما كانت الغرف التي نقيم بها خاضعة على الدوام للتفتيش والمراقبة. ولم يكن مسموحاً إجراء مكالمات هاتفية خارجية، أو الاتصال بالعالم الخارجي خوفاً من تسريب معلومات حساسة. وفي بعض الأحيان كانت درجة الحرارة في الليل تنزل عن 30 درجة مئوية، وأثناء توجهنا إلى الموقع للقيام بالتفتيش كنا نمر على ما لا يقل عن أربعة نقاط تفتيش عسكرية. وحتى الموقع نفسه كان غير آمن وتنعدم فيه معايير السلامة الضرورية، ولو كان موجوداً في الولايات المتحدة لأغلق على الفور. وبالنسبة لهؤلاء المفتشين الذي تركوا أصدقاءهم وعائلاتهم وقبلوا المجيء إلى كوريا الشمالية، فقد كانت حياتهم، تتأرجح بين الضغط في العمل والملل في أوقات الفراغ. وبينما لجأ بعضنا إلى القراءة هرباً من الرتابة، والبعض الآخر إلى لعب الورق، قمت باستعارة جهاز فيديو وبدأت أشاهد الأفلام. وكنا نعرف تماماً أنه في حال تغير الظروف السياسية وتدهور العلاقات مرة أخرى بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، فإننا سنكون بمثابة رهائن محتجزين فوق أرض العدو دون وجود سفارة أميركية توفر لنا الحماية. لكننا مع ذلك قبلنا بالعمل، وأدينا واجبنا في حماية بلدنا بالسعي إلى وقف البرنامج النووي لكوريا الشمالية. واليوم بعد التجربة النووية التي قامت بها بيونج يانج يسعى مؤيدو الإدارة الأميركية وبعض المعلقين إلى تحميل المسؤولية لـ"اتفاقية الإطار" واتهام إدارة كلينتون التي توصلت إليها بالفشل في إقناع كوريا الشمالية بالتخلي عن برنامجها النووي. والواقع أنه عليهم البحث بعيداً عمن يحملونه المسؤولية، فلولا اتفاقية الإطار لاستطاعت كوريا الشمالية منذ زمن بعيد الحصول على البلوتونيوم لإنتاج المزيد من الأسلحة النووية، ولاستطاعت إكمال بناء مفاعلين نووين آخرين. ولو نجحت في القيام بذلك حينها لكان في حوزة كوريا الشمالية اليوم ما لا يقل عن 20 سلاحاً نووياً. جون ولفسثال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زميل في "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية" وأحد المفتشين السابقين في كوريا الشمالية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"