كي تكون قادراً على اللعب في الحلبة السياسية الأميركية، يجب أن تكون من النوع الذي يتمتع بالقدرة على اختلاق القصص. وحتى في لعبة كرة القدم الأميركية فإننا نجد أن ما يميز بين لاعبي أندية الدرجة الأولى وأندية الدرجة الثانية، هو قدرة لاعبي الدرجة الأولى على قذف الكرة بطريقة تجعلها تدور حول نفسها في الجو بحيث تتجه إلى جهة غير تلك التي يتوقعها الخصم ولكنها تحقق مع ذلك الغرض الذي يريده اللاعب. الرئيس جورج بوش قدم نموذجاً لذلك الأسبوع الماضي. ففي مواجهة الخسائر الهائلة في العراق، والانخفاض المتواصل للدعم الشعبي للحرب، واقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، اضطر بوش إلى الإدلاء بتصريح كان يهدف إلى شيء آخر بخلاف ما اعتقده معظم من سمعوه للوهلة الأولى. فخلال مقابلة تلفزيونية يوم الأربعاء الماضي، وعندما وجه "جورج ستيفانوبولس"، المذيع بمحطة "آي بي سي"، سؤالاً إلى الرئيس عما إذا كان يعتقد أن هناك وجه شبه بين الموقف الحالي في العراق، والذي شهد زيادة كبيرة في هجمات المتمردين، وبين الزيادة في وتيرة الهجمات التي شنها الثوار الشيوعيين في فيتنام عام 1968خلال هجوم "تيت"، فإن الرئيس بوش تظاهر بالتفكير قبل أن يجيب قائلاً إن تلك المقارنة "يمكن أن تكون صحيحة". في مكان يقع في الطرف الآخر من العالم، وبعد تلك التصريحات بأقل من 48 ساعة، تلقت الكلمة الرئيسية في تصريحات بوش تعزيزاً. هذا التعزيز جاء في صورة إيجاز صحفي صريح بصورة غير مألوفة تحدث عن فشل جهود الولايات المتحدة الراهنة لتأمين استقرار الوضع في بغداد بشكل معقول، وقد جاء على لسان الميجور جنرال (لواء) ويليام بي كالدويل الذي سبق له أن قاد الفرقة 82 المحمولة جواً، حيث قال: "ليس من قبيل المصادفة أن الزيادة في الهجمات ضد قوات التحالف وزيادة خسائر الولايات المتحدة، تتزامن مع تزايد وجودنا في شوارع بغداد، واقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي، لأن أعداءنا يعرفون أن قتل الأبرياء وقتل الأميركيين سوف يجذب اهتمام مانشيتات الصحف ويؤدي إلى خلق حالة عامة من الإحباط". وبالنسبة لتصريح بوش فقد لوحظ أن الكثير من المنتقدين للحرب على العراق قد سارعوا إلى التعليق عليه ووصفه بأنه يعتبر اعترافاً نادراً، بينما هو في الحقيقة لم يكن كذلك. فحسب الحركة الدوارة للكرة السياسية فإن بوش كان في الحقيقة يريد توجيه رسالتين: الأولى هي حشد مكون جوهري من القاعدة الانتخابية للجمهوريين... والثانية هي إرسال طلقة تحذيرية لكافة وسائل الإعلام الأميركية كي تنتبه عندما تقوم بصياغة تقاريرها الخبرية المتعلقة بالأحداث الدموية في العراق. لإدراك مغزى ذلك علينا أن نتذكر أن هجوم "تيت" يحتل مكانة بارزة لدى المهتمين بمراجعة الحرب الفيتنامية واستخراج الدروس المختلفة منها وخصوصاً الجناح اليميني المحافظ في الحزب الجمهوري. ففي الشهور الأخيرة ازداد المحافظون الجدد يأساً وأصبح بعضهم -وهذا هو المهم- أكثر انتقاداً لسلوك وزارة الدفاع الأميركية في الحرب على العراق. وهؤلاء المحافظون هم المكون الرئيسي أو القوى التي أراد الرئيس بوش أن يحشدها من خلال تذكيرهم بشكل غير مباشر باعتقادهم الدائم بأن أميركا قد فقدت حربها في فيتنام لأن الصحافة الأميركية تحولت في ذلك الوقت إلى طابور خامس خدم الفيتناميين في هجوم "تيت". ومجرد نظرة سريعة على صحافة المحافظين ومواقعهم على شبكة الانترنت والمدونات، تبين أن رسالة بوش قد وصلت إلى هذا الجزء من الجمهور الذي وجه إليه رسالته. يبدو هذا واضحاً لو قرأنا ما كتبه "دانييل فريدمان" في صحيفة "نيويورك صن" عندما كتب يقول: "إن العراق ليس مثل فيتنام، كما يريد معسكر المعادين للحرب أن يقول، أي أنها فاشلة. والحقيقة أن أميركا فقدت حربها في جنوب شرق آسيا لأن قيادتنا فقدت عزيمتها في دعم قواتها في ذلك الوقت، وهو ما لا يجب أن نسمح بتكراره في العراق"! بالإضافة إلى ذلك كتب أحد المدونين المنتمين لفكر المحافظين الجدد: "عندما يقبل الرئيس بوش بأن هناك وجه شبه بين تصاعد مستوى العنف من قبل المتمردين في العراق الآن واشتداد وطأة هجوم تيت في فيتنام عام 1968، فإنه يريد أن يقول إن النصر أو الهزيمة في العراق سيتحدد، ليس بناء على مستوى العنف الذي يستطيع العدو ارتكابه خلال فترة معينة، ولكن بناء على قدرتنا على مواصلة القتال بصرف النظر عن مستوى العنف". كانت هناك كتابات أخرى سواء في الصحف أو في شبكة الإنترنت، تصب كلها في هذا الاتجاه، وتبين أن رسالة بوش للصحافة الأميركية من خلال تصريحه قد وصلت... وهي أن الصحافة الأميركية يتم استغلالها في الوقت الراهن من قبل المتمردين وحلفائهم الجهاديين. والحقيقة هي أن كل ذلك هراء... أقولها لأن مشكلة الإدارة الأميركية في العراق لا تتعلق بالعلاقات العامة بقدر ما تتعلق بالحقائق. والحقيقة التي لا يمكن للصحف إغفالها، حتى مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي، هي أن القوات الأميركية في العراق هي الآن في "ورطة". هذه هي الحقيقة التي يجب أن يقبلها جميع مسؤولي الإدارة وبالذات ديك تشيني ودونالد رامسفيلد عندما كانوا يحاولون توبيخ أو التهكم على أي صحفي يحاول ذكر هذه الكلمة في وجودهما أو حتى يحاول عقد أي مقارنة بين الوضع في فيتنام عام 1968 والوضع الآن في العراق! تيم راتين ــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"