بدأت الثورة المصرية في 1952 بسياسة مقاومة الأحلاف. فقد جسدت الحركة الوطنية في الأربعينيات، وكان الضباط الأحرار في أطيافها المختلفة من "الوفد" و الجماعات الدينية والشيوعيين. فلا فرق بين الاستقلال الوطني في الداخل ضد الإنجليز والقصر والإقطاع، والاستقلال الوطني في الخارج ضد هيمنة القوى الكبرى الصاعدة. بدأت الثورة وهي لم تستقر بعد والخلاف بين أجنحتها المختلفة، نجيب وناصر، أو بينها وبين القوى السياسية السابقة عليها مثل "الوفد" و"الإخوان" والشيوعيين بمعارضة الأحلاف العسكرية. وقد كان مطروحاً في ذلك الوقت "حلف بغداد". فقد كانت بغداد مازالت تحت إمرة نوري السعيد والهيمنة البريطانية. وكان يمتد جنوباً إلى الرياض، وشمالاً إلى إسنطبول، وشرقاً إلى طهران وكراتشي من أجل الإحاطة بالاتحاد السوفييتي من خاصرته الجنوبية، وإحكام الخناق حوله من الجنوب بعد حصاره من الغرب عن طريق حلف شمال الأطلسي. وتكاتفت سوريا مع مصر في الوقوف ضد "حلف بغداد" في 1954. وأعلن ناصر والشيشكلي أثناء زيارته لمصر هذه المقاومة لسياسة الأحلاف. كانت سوريا قد سبقت مصر بثورات الجيوش منذ 1949 وكنتيجة للهزيمة في فلسطين في 1948. وانعكست مقاومة الأحلاف في الخارج على الحركة الوطنية في الداخل. فحركة الاستقلال الوطني واحدة على الجهتين. أمَّم ناصر القناة في 1956، وقاوم العدوان الثلاثي. وناصر العرب تأميم القناة. وفجرت سوريا أنابيب البترول. وتوحدت مصر وسوريا في 1958 في أول تجربة وحدوية عربية في تاريخ العرب الحديث. ثم صدرت قوانين يوليو الاشتراكية في عام 1962-1963 كرد فعل على الانفصال في سبتمبر 1961. وفي أتون حرب اليمن بعد اندلاع ثورتها في 1964 ومصر مثقلة بأعباء مناصرة الثورة وقفت من جديد ضد "الحلف الإسلامي" في 1965، بعد أن اندلعت الثورة العراقية في 1958 من أجل محاصرة الثورة العربية والحركة القومية. واستغل الدين لذلك، الحلف في مواجهة الشيوعية في الخارج، والاشتراكية في الداخل، حفاظاً على الدين من المادية والإلحاد. وقاومت مصر الحلف حتى أثخنتها الجراح في هزيمة يونيو -حزيران 1967. فقامت الثورة في ليبيا في 1969 كرد فعل على الهزيمة، ولكن وفاة ناصر في 1970 أنهت قصة مقاومة الأحلاف في بداية الثورة وعلى مشارف نهايتها. كلفتها عدوان 1956 لمقاومتها "حلف بغداد" في 1954، وهزيمة يونيو -حزيران 1967 لمقاومتها "الحلف الإسلامي" في 1965. كان الهدف من الحلفين واحداً، إجهاض الثورات العربية بقيادة الجيوش الوطنية في الخمسينيات والستينيات بصرف النظر عن الأسماء: جغرافية، بغداد، أو إسلامية، كراتشي آنذاك وإسلام أباد اليوم. و هذه الأخيرة مازالت متحالفة مع الولايات المتحدة منذ غزو أفغانستان. وعواصم دول إقليمية كبيرة أخرى مازالت مستعدة لانتهاج نفس السياسة القديمة حماية لنفسها من خطر الإرهاب، وتفكك المجتمع من الداخل، وممارسة العنف. وبغداد تم الانقضاض عليها وتدميرها كلية واحتلال العراق بأكمله. وقامت ثورة إيران في 1979 لتقاوم "الشيطان الأكبر". ومازالت تدافع ضد محاولات الغزو من الخارج، والانقلاب من الداخل. ومازالت مستمرة في التجاذب حول ما تقول إنه سعي لامتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، وإسرائيل تمتلك السلاح النووي أمام أعين العالم دون لوم أو معارضة. ثم حدث الانقلاب على الثورة بقوة مضادة من داخلها منذ مايو 1971. وبعد حرب أكتوبر 1973 التي أعد لها ناصر ابتداءً من حرب الاستنزاف في 1968-1969 وبضغوط مظاهرات الطلاب في 1971 بدأ التحول التدريجي من الثورة إلى ما سماه البعض "الثورة المضادة" بداية بقانون الاستثمار والانفتاح الاقتصادي في 1974-1975. ولما اندلعت الهبَّة الشعبية في يناير 1977 لاستمرار مبادئ الثورة والدفاع عن حقوق المستضعفين، بدأت الأحلاف الخارجية لحصار الشعب من الداخل ابتداء من زيارة القدس في نوفمبر من نفس العام 1977، ثم اتفاقية "كامب دفيد" في 1978، ثم معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في 1979. ولم تكن حرب أكتوبر 1973 آخر الحروب بل كانت بداية الحروب الإسرائيلية- الأميركية بغزو لبنان وحصار بيروت 1982، وضرب المفاعل النووي العراقي في 1984. ثم قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987 والتف حولها العرب. وبدأ تهديد سوريا وتقسيم السودان. ولما انتفضت المقاومة اللبنانية لتحرير مزارع شيعا والإفراج عن الأسرى وانتصر "حزب الله" لأول مرة في تاريخ العرب بقذف مدن إسرائيل وتهجير الملايين من شمال إسرائيل إلى جنوبها بدأ التفكير في عقد أحلاف جديدة. ثم جاءت الدعوة الأميركية إلى محور جديد. وربما يدعون إلى حلف سُني ضد الشيعة، أو شيعي ضد السُّنة، من أجل قسمة الوطن العربي ليس فقط إلى "متطرف" و"معتدل" بل إلى شيعة وسُنة وتحويل الحرب ضد الاحتلال في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان إلى حروب داخلية، بين السُّنة والشيعة. فتتفتت المنطقة وتتشرذم. فالعولمة ليست طريقاً واحداً بل طريقان، توحيد المركز وتفتيت الأطراف. وبالتالي تجهض كل إمكانية بإقامة قطب جديد في المنطقة العربية الإسلامية بالتعاون مع اليسار الناهض في أميركا اللاتينية عوداً إلى حلم الستينيات، عبدالناصر وكاسترو، والعالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية في عصر الاستقطاب. تصنيف الدول الآن حلقة جديدة من سلسلة حلقات البدائل للقومية العربية والمد الديني بعد الشرق أوسطية والمتوسطية و"الشرق الأوسط الجديد" أو "الكبير". لقد سقط ما كان يسمى "الخلافة" في 1924 التي كانت مظهراً من مظاهر وحدة الأمة حتى ولو كان ضعيفاً لصالح القومية العربية. ثم انهارت القومية العربية بعد هزيمة يونيو –حزيران 1967 وعدوان النظام العراقي على الكويت في 1990 لصالح الدولة القطرية. ثم انهارت الدولة القطرية بعد الغزو الأميركي للعراق ومحاولة تقسيمه إلى ثلاث دويلات طائفية، كردية في الشمال، وسُنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، ثم تقسيم السودان إلى دويلات عرقية في الجنوب والشرق والغرب، ثم تقسيم لبنان وسوريا ومصر وغيرها إلى دويلات طائفية عرقية تصبح إسرائيل بينها أكبر دولة عرقية طائفية في المنطقة، يهودية عبرية، تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية والثقافات المحلية في المنطقة وليس من أساطير المعاد وشعب الله المختار والأرض الموعودة التي أقام عليها هرتزل تصوره للدولة اليهودية في 1897. لقد انتهى الاتحاد السوفييتي والخطر الشيوعي في مواجهة حلف شمال الأطلسي. والآن يبدأ خطر التطرف الإسلامي وإيجاد وظائف جديدة لحلف شمال الأطلسي إما كبديل للغزو الأميركي ووراثة له كما يحدث في أفغانستان حالياً أو لغزو الثقافة وتجنيد المثقفين في مشروعات بحثية ضد العنف والإرهاب والخطر الإسلامي والتطرف. قاومت الثورة المصرية في البداية سياسة الأحلاف في الخمسينيات والستينيات واستسلمت لها بتحول الثورة إلى "ثورة مضادة" في السبعينيات. فمتى تقوم الثورة وينتفض الدم في عروقها لمقاومة الأحلاف من جديد؟