كيم: شيوعي غامض و "محنك"... ينفتح ثم يُصعَّد! في مكان لم يحدده مطلقاً، نقل تلفزيون كوريا الشمالية صورة الرئيس كيم يونغ إيل وهو في حفل غنائي، يوم الأربعاء الماضي، وقد بدا محاطاً بضباط قيادة أركانه وعدد من كبار المسؤولين الكوريين الشماليين، في أول ظهور علني له منذ اندلاع الأزمة الحالية بين بيونج يانج والمجتمع الدولي على خلفية التفجيرات النووية التي أعلنت عنها كوريا الشمالية قبل عدة أيام. وعلى غير عادته كثيراً بدا "كيم" مبتهجاً وذا ملامح طافحة بالفرح، وقد "تأثر بالجو الحماسي للفنانين والجمهور، وهنأهم على أدائهم الناجح"، حسب ما قالته وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية. فما هي دلالة الفرح في وقت الشدة والأزمة، أي بينما تتصاعد الضغوط والتهديدات والمخاطر الخارجية ضد كوريا الشمالية؟ من عادة "كيم" أن يحتجب عن الظهور في ظرف من النوع الذي تتعرض له بلاده حالياً، لكن خروجه الأخير على مألوفه، وإن لم يدلِ بأي حديث حول التطورات الجارية، ربما كان لتوجيه رسالة مفادها أنه يمسك تماماً بزمام الأمور، وأن القيادة السياسية والعسكرية تلتف حوله بإخلاص. ومن عناصر الأزمة الحالية، قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1718 الصادر يوم السبت الماضي، والذي اعتبرته بيونج يانج "إعلان حرب"، لكونه يفرض عليها عقوبات اقتصادية وعسكرية، علاوة على عقوبات إضافية أعلنت عنها كل من واشنطن وطوكيو. حدث ذلك إثر التجربة النووية التي نفذتها كوريا الشمالية يوم التاسع من أكتوبر الجاري، بتفجير قنبلة على عمق 2000 متر داخل منجم فحم مهجور في شمال البلاد قرب الحدود الصينية. وبررت بيونج يانج ذلك التفجير، وهو تجربتها النووية الأولى، بالإشارة إلى "تهديدات بحرب نووية وعقوبات" من جانب الولايات المتحدة. لكن ثمة شكوكاً حول حيازة كوريا الشمالية لقنابل نووية، إذ ينظر إلى إعلانها في يوليو من العام الماضي عن إنتاج قنابل نووية، على أنه للمباهاة أو للحصول على حوافز غربية مقابل تعليق برنامجها النووي! وما الغموض الشديد الذي يحيط بحجم القدرات النووية لكوريا الشمالية، إلا انعكاس لغموض آخر حول نظامها السياسي وشخصية زعيمه "كيم" نفسه، والذي لا يسمح داخلياً بتداول أي معلومات عن حياته الشخصية، وإن كان يذكر أن زوجته الحالية، وهي "كيم أوك" (42 عاماً)، مجازة في البيانو من جامعة بيونج يانج، وأنه تزوج سابقاً ثلاث مرات، لكن في كل مرة كان الموت يخطف منه زوجته. ويعرف أيضاً عن "كيم" أنه لم يستخدم الطائرة في أسفاره مرة واحدة. ورغم نظرة الغرب إليه، وهو الذي يطلق عليه جورج بوش وصف "القزم" بسبب قصر قامته -مما جعله ينتعل الأحذية ذات الكعب العالي- كرجل سكير يحب اللهو وغريب الأطوار، فإن المراقبين يرونه سياسياً محنكاً وشديد الدهاء، فـ"ما يريده هو ما تحصل عليه كوريا الشمالية"! يشغل المارشال كيم يونج إيل مناصب رئيس لجنة الدفاع، والأمين العام لـ"حزب العمال الكوري"، ورئيس جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، وهي مناصب ورثها عن والده كيم إيل سينغ الذي حكم البلاد 36 عاماً. لكن صلاحيات "كيم" الابن في هذه المواقع، كما كان الشأن بالنسبة لوالده أيضاً، اتسمت بتداخل جعل منه حاكماً ذا سلطة مطلقة، وقد لقبه مواطنوه "الزعيم الغالي"، تجسيداً لعبادة الفرد! وخلافاً لما تورده مصادر محايدة من أن "كيم" ولد عام 1942 في روسيا داخل أحد معسكرات التدريب التابعة للحركة المسلحة التي أطلقها والده من هناك ضد المحتل الياباني، فإن الوثائق الرسمية تذكر أنه ولد عام 1941 في منطقة بكتي الجبلية بكوريا الشمالية، حين ظهرت نجمة في السماء ولاح قوس قزح واكتسى جبل بكتي لوناً أبيض وأصبح مقدساً! كان "كيم" طفلاً صغيراً حين وضعت الحرب العالمية أوزارها، وقد دخل والده على رأس قوات شيوعية إلى بيونج يانج، وأصبح زعيماً للشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية بعد انقسامها، في فبراير عام 1946. انكب "كيم" الابن على الدراسة، وكان تلميذاً في مدرسة "نامسان" التي يتردد عليها أبناء الكوادر العليا للحزب الشيوعي الكوري، ثم نال شهادة في الاقتصاد السياسي من الجامعة التي تحمل اسم والده، قبل أن يتلقى دورات تكوينية في مالطا والصين. بعد تخرجه من الجامعة عام 1964، بدأ الشاب البالغ من العمر 22 عاماً يصعد سلم القيادة في "حزب العمال الكوري" الحاكم، فترأس قسم المنظمات الشعبية في الحزب، قبل أن يصبح عضو مكتبه السياسي عام 1968، ثم مديراً لقطاع التعبئة، فأميناً عاماً للتوجيه عام 1974. وخلال العشرين عاماً التالية، تقلد "كيم" عدداً كبيراً من المناصب؛ كوزارة الثقافة، وقيادة الأمن، وقيادة أركان الجيش، ووزارة الشؤون الداخلية... مما عزز الاتجاه نحو خلافته لوالده. وإن فُسرت فترة السنوات الثلاث التي فصلت بين وفاة "كيم" الأب عام 1994، وبين الإعلان رسمياً عن "كيم" الابن كزعيم جديد لكوريا الشمالية عام 1997، بوجود مصاعب في عملية التوريث، فالأمر، كما يرى المراقبون، لم يكن سوى جزء من استراتيجية "الغموض البناء" في كوريا الشمالية. لم يجر "كيم" أي تغيير جوهري في السياسات الشيوعية العتيقة لكوريا الشمالية، وإن تبنى سياسة انفتاح تدريجي على العالم الخارجي، توجت بقمة بيونج يانج التاريخية بينه وبين رئيس كوريا الجنوبية كيم داي جونغ في يونيو 2000، ثم بزيارة لوزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت في العام نفسه إلى كوريا الشمالية. وهي سياسة ساعدت على إطلاق المفاوضات السداسية، حيث قبلت بيونج يانج التخلي عن برنامجها النووي مقابل تعهدات اقتصادية وتقنية غربية، لكن "كيم" أعلن العام الماضي انسحاب بلاده من هذه المفاوضات، مشترطاً لاستئنافها أن تنهي الولايات المتحدة قيودها المالية على كوريا الشمالية. وفي الإطار نفسه بررت بيونج يانج تجاربها النووية الأخيرة! فأي دوامة من التصعيد والتصعيد المضاد إذن يضع فيها الزعيمان، "كيم" وبوش، شبه الجزيرة الكورية المقسمة! محمد ولد المنى