"إذا وجد حزبان شيوعيان، في بلد واحد وفي وقت واحد، فلابد أن يكون أحدهما انتهازياً"، هذا ما قاله لينين ذات يوم وهو قول صحيح إلى أبعد الحدود. أما الواقع الفلسطيني فيعيد صياغة هذا القول ليصبح: "إذا وجدت قوتان مسلحتان بأيديولوجيتين مختلفتين وتوجهين سياسيين متناقضين، في مكان واحد وفي وقت واحد، فلابد أن يحدث الصدام بينهما عاجلاً أم آجلاً" اللهم إلا إذا سبقت ذلك تغيرات جوهرية. ومؤخراً شاهدت كاريكاتوراً رسمه المبدع "عورتاني" حول الخلاف بين حركتي "فتح" و"حماس" على السلطة حيث شبههما بديكين يتناطحان في قفص فيما الإسرائيلي المحتل يشحذ سكينه سعيداً لذبحهما معاً. وهذا هو تماماً ما قالته الكاتبة والمحللة السياسية "أولي نوي" في "يديعوت أحرونوت"، حيث استخلصت أن "إسرائيل نجحت بتخطيط استراتيجي بعيد المدى في دفع الفلسطينيين إلى هاوية الفوضى والاقتتال الداخلي عبر إضعاف "طرفي النزاع" الفلسطيني وممارسة الحصار الاقتصادي والضغط السياسي على الشعب الفلسطيني خصوصاً في قطاع غزة.. وأن هناك من لم يفاجأ للمشاهد الدموية في الأراضي الفلسطينية وهو بالتأكيد النخبة السياسية الإسرائيلية التي سارعت قبل أسبوع للإعلان عن موت القضية الفلسطينية. وفي الوقت الذي تدعي فيه إسرائيل نقاء كفيها مما يجري في الأراضي الفلسطينية وتصفه بأنه شأن داخلي، تعود جذور هذا الصراع الخطير إلى السياسة الإسرائيلية في إضعاف الطرفين، "فتح" و"حماس"، بشكل متساوٍ، بحيث لا يستطيع أي منهما السيطرة على الأراضي الفلسطينية بشكل فعال... وأن الفوضى والاقتتال الداخلي الفلسطيني هما نتيجة لتخطيط إسرائيلي بعيد المنال. ذلك أنه كلما شعرت إسرائيل بأن "حماس" تخسر من قاعدتها الجماهيرية وأن هناك احتمالاً لعودة قوة "فتح"، فإنها تقوم بإضعافها بخطوات سياسية أو عسكرية مدروسة، بل إن الحديث عن تقوية أبو مازن لم يعد سوى "فكاهة حزينة"، تعرف إسرائيل وواشنطن أنها "قليلة الحيلة ومتأخرة جداً"، وهو ما استخلصته الكاتبة "نوي" في مقالها آنف الذكر. لطالما استمعنا (فلسطينيين وعرباً) لعبارات التحريم الحاسمة، مع رغبة كامنة وهائلة لتصديق مطلق، بخصوص الحرب الأهلية الفلسطينية وأنها "خط أحمر" أو هي "تجاوز للمقدسات". ولكن لماذا وكيف نختلف عن شعوب الأرض (هل لأننا "ملائكة" وغيرنا "بشر"؟!) حيث دوماً تقع حروب أهلية كلما توافرت العوامل التي تقود إليها؟ ونحن –للأسف الموجع- لدينا من الأسباب ما يقود إلى حرب أهلية رغم الموانع التي ما زالت تمنعها، أو أقلها تؤجلها، أي ليس ثمة مانع مطلق، أو ضمانة مطلقة لوقوع مثل تلك الحرب لا قدر الله ولا سمح! ومن هنا، هل يمكن تصديق كل هذه الشعارات التي تتغنى بـ"الوحدة الفلسطينية المقدسة" واعتبار الحرب الأهلية "محرمة ولا يمكن الاقتراب منها"؟! أولم يحدث اقتتال/ قتل متبادل في الماضي البعيد والقريب بل والقريب جداً أي قبل أيام؟!! وكيف يمكن تصديق أن الدم الفلسطيني "خط أحمر" وهناك قوتان مسلحتان تتمسك كل واحدة منهما بسلاحها وترفض التخلي عنه، وكل واحدة منهما تصر على أنها صاحبة الحق بمستقبل الدولة الفلسطينية المنشودة؟!! وواقع الحال أننا في فلسطين أمام حركتين كبيرتين كل واحدة منهما لها قواعدها الجماهيرية الواسعة ولكل منهما أيديولوجيتها المختلفة بل المتناقضة، ولكل منهما برنامج سياسي متعارض إلى درجة التناقض، علاوة على الواقع القبلي/العشائري المسلح، ناهيك عن الضغوط الدولية والإقليمية عليهما معا بما يفسح المجال واسعاً أمام إشعال عود الثقاب ليفجر هذا "الديناميت" الأيديولوجي والسياسي المتشكل من هذه الحالة. وأمام ذلك، فإن "الضمانة" في عدم الاقتتال تكمن في، أولاً، الوعي الجمعي الفلسطيني الذي يرفض مبدأ الاقتتال الفلسطيني، وثانياً حكمة القيادة لكلا الفصيلين. لكن، بصراحة كبيرة، فإن هاتين "الضمانتين" (الوعي الجمعي وحكمة القيادة) ليستا من النوع الذي يمكن اعتباره مطلقاً! صحيح أنهما لغاية الآن فعلا فعلهما وربما يستمر فعلهما في الأيام القادمة (رغم سقوط قتلى من كلا الطرفين) لكن بالتأكيد ليست ثمة ضمانة مطلقة لعدم حدوث الاقتتال الواسع، وهو احتمال شرطه غياب العاملين السابقين. فإذا غاب دور الجماهير المعبر عن الذاكرة الفلسطينية، وإذا غابت حكمة أي من الفريقين الكبيرين المتناقضين أو كليهما، وإذا ما نجحت الأطراف الخارجية الدافعة للاقتتال، نسأل بوجع لا حدود له: ما الذي سيمنع وقوع حرب أهلية؟ إننا بالتأكيد نأمل باستعادة الذاكرة الشعبية الفلسطينية الرافضة للاقتتال لتجنب ويلات 1931، و1937 و1939، واستذكار الحالة النقيضة في ذات الوقت أي إضراب 1936، ذلك الإضراب الحضاري الأرقى في التاريخ الفلسطيني والذي يشكل واحدة من أروع حالات النضال المدني في مواجهة القوات البريطانية والصهيونية. إذن، جذور الأزمة وعوامل التناقض موجودة موضوعياً وتحتاج إلى جهد وحكمة القيادات. غير أن الحكمة ليست حالة دائمة، وهي إن كانت حالة دائمة لدى طرف فقد لا تكون حالة دائمة لدى الطرفين، وإذا توفرت الحكمة لدى الطرفين فقد تأتي قوة من الخارج لتقضي في لحظات على تلك الحكمة، وهذا هو ما يعبر عنه الاقتتال الفلسطيني الذي يحدث من وقت لآخر. والحال المؤسف كذلك، يصبح النوم على مخدة حريرية والإيمان بأن "الحرب الأهلية خط أحمر ومقدسات.. ولن يحدث" أمر خطير. نعم، "الحرب" لغاية الآن خط أحمر ولم تحدث لكن حدوثها ليس بالضرورة خارقاً لحالات الشعوب وتجاربها. وما حدث من صدامات مؤخراً يمكن اعتباره (ربما كي نخفف عن أنفسنا) نوعاً من "فصد الدم الفاسد" الذي كنا نأمل أن يحدث بطريقة حضارية غير الطريقة الهمجية البشعة التي شاهدناها. وطبعا ليس غريباً، أن يحصل ما حصل. فعندما تكون العربة الفلسطينية مربوطة بحصانين يشد كل منهما في الاتجاه المضاد للآخر، ستكون النتيجة صداماً كذاك الذي وقع في قطاع غزة وهو –بألم شديد- صدام يحتمل تجدده في أية لحظة. ومع استمرار فشل المبادرات الفلسطينية والعربية، من المرجح، لفجيعتنا الكاملة، اندلاع الحرب الأهلية، وعندها لن يكون الدم الفلسطيني خطاً أحمر! وحيث إن المرحلة القادمة ستكون أصعب المراحل الفلسطينية على الإطلاق، يتوجب على الحركتين إدراك أن المخرج لن يستقيم بنوع من "المونولوج" الفلسطيني/ الفلسطيني الذي يريحنا لكنه يدخلنا مدرسة "الطرب السياسي" الفلسطيني، بدلاً من مدرسة "الحل السياسي". فالمطلوب هو "ديالوج" بمعنى الحوار الداخلي بكل منشوداته، شرط مراعاته لشروط إنقاذ القضية الفلسطينية وإعادتها لحقيقة كونها قضية وطنية وليست مسألة مطلبية أو مسألة محاربة فلتان أمني. وإزاء هذا الانحطاط في صورة القضية نحو شؤون مطلبية (رواتب أو غير رواتب، مساعدات وتبرعات، ثم هبطت إلى مجرد لقمة العيش) وصولاً إلى شؤون أمنية (معالجة الزعرنة والبلطجة والفلتان الأمني) لا يوجد أي خيارٍ سوى خيار صيغة الوحدة الوطنية، لكن المنفتحة على العالم ومواقفه، فنحن لا نعيش في جزيرة معزولة! فهل نتَّعظ؟.