في مكان ما بنيويورك (لا يمكننا أن نقول أين)، يراقب جهاز حاسوب كل حركة تقوم بها ثماني سمكات في صهريج. وحين تبدأ بعضها بالسعال (أجل، إن الأسماك تسْعل)، يرسل الحاسوب تحذيراً ويأخذ عينات من الماء. يسمى هذا الأمر بـ"نظام المراقبة البيولوجية المائية الذكي" الذي يعتبر أحدث وسيلة تكنولوجية دفاعية ضد هجمات إرهابية محتملة على موارد البلاد المائية -كما تعد مناسبة أيضاً لرصد أنواع أخرى من التلوث، كانتشار بقعة زيتية مثلاً. ويسعى العلماء إلى استغلال الطبيعة والاستفادة من كل شيء، من الطيور إلى النحل إلى الأسماك، وذلك عبر معدات وأجهزة يمكنها إشعار السلطات في حال لم تكن الأمور عادية في الهواء أو الماء. وخلافاً لوسائل الاستشعار التي هي من صنع الإنسان والتي لا ترصد سوى بعض الملوثات فقط، فإن هذه الأسماك وغيرها من وسائل استشعار الطبيعة تتميز باستجابتها لسلسلة واسعة من المشاكل. فإذا كانت غير قادرة على القول مثلاً إنه يوجد غاز ما في الماء مثلما تستطيع الآلة، فإنه يمكنها أن تكشف عن وجود أمرٍ غير عادٍ -وفي معظم الحالات فهي أسرع من أي شيء تمكن الإنسان من صنعه إلى اليوم. يقول البروفسور جيري برومينشك، المتخصص في العلوم البيولوجية من جامعة مونتانا والذي يقود جهود استعمال النحل كوسيلة لمراقبة جودة الهواء: "لقد ظهرت التكنولوجيا البيولوجية على الواجهة في العقد الأخير على صعيدي الهندسة البيولوجية والتعديل الوراثي. ولكننا اليوم نميل إلى العودة إلى الأنظمة الحية وتطبيقها بطرق جديدة وفريدة تماماً". تعد الأسماك وأجهزة الحواسيب التي ترافقها شديدة الحساسية إلى درجة أن ثلاث مدن رئيسية -هي نيويورك وواشنطن وسان فرانسيسكو- قررت استعمالها ضمن برنامج نموذجي، ووجدتها ناجحة جداً إلى درجة أنها جعلتها جزءاً دائماً من دفاعاتها. والواقع أن الجيش طور وسيلة الاستشعار السمكية مع شركة خاصة، غير أنه استعمل أيضاً وسيلة الاستشعار بمواقع لم يكشف عنها (إذ تعد الأسماك، في هذه الحالة، سرية للغاية). ويقول إيان مايكلز، المتحدث باسم قسم حماية البيئة في مدينة نيويورك، التي تضخ نحو 1.2 مليار غالون من الماء يومياً لأكثر من 9 ملايين شخص، أي حوالى نصف الولاية: "إن المعدات والأجهزة التي نعمل بها اليوم مستعارة من الجيش"، مضيفاً: "ولكننا نعتزم شراء أجهزتنا الخاصة وتوسيع البرنامج إلى أبعد مما هو عليه اليوم". غير أن مايكلز رفض لأسباب أمنية الكشف عن عدد الأجهزة التي تتوفر عليها المدينة اليوم وعدد تلك التي تعتزم شراءها. وتقوم هذه التكنولوجيا المذهلة على فكرة قديمة؛ حيث استعمل العلماء الرواد الأسماك مُفرطة الحساسية خلال القرن التاسع عشر من أجل رصد أية مشاكل محتملة في مياه الشرب، وهو ما أذهل أحد علماء البيولوجيا الذين يعملون مع الجيش ويدعى "تومي شيد"؛ حيث أجرى هذا الأخير، رفقة علماء بيولوجيا آخرين، تجارب على كائنات حية مثل الأسماك والطحالب وغيرها لمراقبة التغيرات في البيئة. وهكذا خطرت للدكتور "شيد" فكرة ربط الأسماك بحاسوب قوي ومتطور جداً. وبعد هجمات 2001 الإرهابية، جعل رئيسُه في العمل إتمام المشروع على رأس الأولويات. وفي أكتوبر 2001 قدم "شيد" أول نموذج صناعي لـ"نظام المراقبة البيولوجية المائية الذكي". ويقول الدكتور "شيد"، عالم البيولوجيا والمخترع في مركز الجيش الأميركي لأبحاث الصحة البيئية في فورت ديتريك بولاية ميريلاند: "لقد كان تفكيراً استشرافياً. وقد كان أمراً إيجابياً جداً". وقد تلقى رئيسه في العمل تعليمات أمنية مختلفة عن تلك التي وجهت لنيويورك، التي لم ترغب حتى في الكشف عن أنها تمتلك وسائل المراقبة تلك؛ حيث أكد قائد ديتريك على نجاح الأسماك، بالرغم من أن "شيد" رفض، بتعليمات من رئيسيه، الكشف عن المكان الذي قام الجيش بوضعها فيه. ويقول "تنظر قيادتنا إلى الأمر كوسيلة ردع، ولذلك، فهي تحرص على أن يعرف الإرهابيون أننا نتوفر على هذا النظام". ولما كانت الأسماك كائنات معقدة، فإن "نظام المراقبة البيولوجية المائية الذكي" يستعمل ثماني أسماك ضماناً للدقة. وفي هذا الإطار يقول "بيل لولار" الذي ساهم في تأسيس "شركة المكننة الذكية" في باوي بولاية كاليفورنيا، والتي طورت الحاسوب "نظام المراقبة البيولوجية المائية الذكي"، مُعلقاً: "إن كانت سمكة واحدة على سبيل المثال سيئة المزاج، فإننا نريد أن نتأكد من أننا لا نصدر تحذيراً خاطئاً". والواقع أن نجاح "نظام المراقبة البيولوجية المائية الذكي" يمهد الطريق أيضاً للجيل الجديد من أجهزة المراقبة شديدة الحساسة؛ حيث يريد علماء البيولوجيا، اليوم وقد انتهوا من الأسماك، أن يفهموا بنياتها الخليوية، وهو ما يعني أنه قد يأتي يوم لا يكون ضرورياً فيه التوفر على صهريج للأسماك لتحذير السلطات من شيء سام تم صبه في مياه الشرب. أليكساندرا ماركس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة أميركية في مجال العلوم والتقنية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"