في مقالي الأخير المنشور في هذه الصفحات ذهبت إلى القول إن الدعوة التي أطلقها جمال مبارك نجل الرئيس المصري مؤخراً لتطوير الطاقة النووية في مصر تمثل خطوة مرحباً بها ضمن إطار رؤية استراتيجية كبرى مطلوبة لدور مصر في محيطها الإقليمي. وعلى الرغم من أنه من حق مصر باعتبارها من الدول الموقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي أن تقوم بتطوير برنامج نووي للأغراض السلمية وتوليد الطاقة، فإنه لا يحق لها العمل على تطوير سلاح نووي إلا إذا ما أعلنت انسحابها من هذه المعاهدة وهو ما لمَّحت إليه بالفعل في فترة ماضية ولكنها لم تقم بذلك وجددت اشتراكها في الاتفاقية دون أن تحصل على أي شيء من إسرائيل في مقابل ذلك. وهذا يطرح سؤالاً حول جدوى استمرار مصر في تلك المعاهدة، خصوصاً وأن الغرض الحقيقي لها هو إدامة نظام نووي تمييزي يسمح للدول التي توجد لديها أسلحة نووية بالفعل بالاحتفاظ بتلك الأسلحة وحرمان الدول التي لا يوجد لديها مثل تلك الأسلحة من الحصول عليها، مقابل تقديم وعد قد لا يتحقق أبداً من جانب القوى النووية الكبرى مؤداه أنها ستعمل على التخلص من أسلحتها النووية. والنهج التمييزي لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية يتبدى بصورة واضحة في طبيعة الحوار الدائر حولها، الذي ينصب على خطورة تلك الأسلحة، وآثارها المدمرة على البشرية، وعدم جدوى ولا إمكانية استخدامها كما اتضح من خلال جميع الصراعات التي نشبت إبان الحرب الباردة، وأن الولايات المتحدة هي الدولة التي يجب أن تقود الجهد الدولي الرامي لتجنب المزيد من الانتشار النووي خصوصاً بعد أن قامت بتطويق المشتبهين الرئيسيين بالتكاثر النووي. أما إسرائيل -كما نسمع في هذا الحوار دائماً- فإنها قد استثنت من موضوع حظر الانتشار ومنحت ميزة الاستفادة بقاعدة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، خصوصاً وأنها –يقول الغربيون- دولة صغيرة تعيش في محيط مُعادٍ وليست هناك من وسيلة ردع يمكنها استخدامها لحماية نفسها سوى عن طريق حيازة القنبلة النووية. والحجة الخاصة بالتغاضي عن احتكار إسرائيل للقنابل النووية تقوم على فرضية زائفة تفترض أن حجم السكان وعمق الأراضي وعدد الجنود يحظى بنفس الأهمية الاستراتيجية التي كان يحظى بها تاريخياً أيام الأسلحة التقليدية. وفي الحقيقة أن مثل تلك الفرضيات وغيرها تقودنا إلى نتيجة حتمية وهي أنه من حق الدول الكبرى أن تستمر في الاحتفاظ بترسانتها النووية وأن تعمل في نفس الوقت على عدم السماح للآخرين بامتلاك القنابل النووية. وإذا ما عدنا للموضوع النووي المصري مرة أخرى فإننا سنجد أن الطاقة النووية ستكون ذات فوائد جمة لتقدم مصر العلمي وتطورها الاقتصادي. ومن الناحية السياسية والأمنية فإن الحصول على سلاح نووي سينهي هيمنة إسرائيل على هذه الأسلحة في المنطقة وسيؤسس لتوازن مختلف للقوى بين أقوى دولتين فيها. فالأسلحة النووية المصرية ووسائل إطلاقها المناسبة (جواً وبراً وبواسطة الغواصات) ستؤدي إلى إدخال مذهب استراتيجي جديد في المنطقة بدلاً من مذهب الابتزاز النووي الإسرائيلي الحالي القائم على "التدمير الأحادي المؤكد". هذا المذهب الجديد هو مذهب "التدمير المتبادل المؤكد" الذي يعني أنه إذا ما كانت إسرائيل ستقوم بتهديد وجود مصر فإن مصر ستكون هي الأخرى في موضع يمكنها من تهديد وجود إسرائيل وهو ما سيجعل الحرب بين البلدين أمراً غير قابل للتفكير فيه، ويدخل حسابات استراتيجية جديدة للمنطقة تؤدي إلى ردع إسرائيل عن التمادي في سلوك البلطجة التي تتبعه حالياً. أما الحجة القائلة إن إسرائيل دولة ديمقراطية ومسؤولة عن أفعالها في حين أن العرب لا يمكن ضمان أفعالهم فهي حجة عنصرية في جوهرها علاوة على أن سجل إسرائيل التاريخي في انتهاك القانون الدولي لا يدعمها بحال. أما الآن، وبعد أن نقل جمال مبارك الحوار حول المسألة النووية من الغرف المغلقة إلى ساحة العلن فإن مصر سيصبح أمامها خياران هما: القبول بالهيمنة الإسرائيلية في المنطقة بما يترتب على ذلك من تداعيات وما يحمله في طياته من مضامين، وإما الارتفاع لمستوى التحدي والعمل على تأكيد استقلال إرادتها وريادتها للمنطقة من خلال التأكيد على، وممارسة حقها في، تطوير طاقة نووية وصولاً في النهاية إلى خيار الردع النووي.