يُلخص المثل البغدادي الساخر "الناس بالناس والقرعاء تمشط الراس" موافقة أعضاء "البرلمان العراقي" على ما يُسمى "قانون الأقاليم الفيدرالية". وهذا أخف تعليق على مشهد أعضاء البرلمان رافعي الأيدي مبتهجين بموافقتهم الجماعية على ما يعتبره العراقيون قانون تقسيم العراق. تعليقات أكثر خبثاً في مواقع الإنترنت العراقية تحدثت عن ثلاثة ملايين دولار دُفعت لثلاثة نواب حسموا نتيجة التصويت. حصل كل واحد من الثلاثة، على مليون دولار لقاء التحول بولائهم من كتلة إياد علاوي التي تعارض الفيدرالية، إلى قائمتي التحالف الكردي وجماعة الحكيم الداعيتين للفيدرالية. وقد لا تكون حكاية الرشاوى سوى شائعات للتعبير عن حرقة العراقيين وآهاتهم إزاء ما أصبح يجري على الملأ! فعندما كانت شاشات التلفزيون تنقل لقطات الابتهاج داخل البرلمان، كان العالم يتابع مصعوقاً تقارير منظمات "الأمم المتحدة" والمؤسسات الأكاديمية الدولية عن قتل مئات الآلاف من العراقيين وتهجير الملايين منهم. الإحصائيات التي نقلتها وكالات الأنباء العالمية عن المجلة الطبية البريطانية "لانست" قدّرت عدد ضحايا العراقيين منذ الغزو بأكثر من 650 ألف قتيل، أي ما يمثل نسبة اثنين ونصف في المئة من مجموع سكان العراق. أعدّ الإحصائيات فريق مشترك من أطباء عراقيين وأميركيين في جامعة "جونز هوبكنز" التي تعتبر من أهم الجامعات الطبية في الولايات المتحدة. الإحصائيات لخصت نتائج مسوح ميدانية داخل العراق شملت أكثر من 1800 منزل، واستقصت الوفيات بين 12 ألف من أفراد الأسر خلال الفترة ما قبل وبعد غزو العراق. وفي حين كان الرئيس الأميركي ينكر صحة الأرقام، خشية من تأثيرها على نتائج انتخابات الكونغرس القادمة، صدر نداء من "الأمم المتحدة" دعا إلى وقف المذابح وعمليات التهجير الجماعية في العراق. وذكر النداء الذي أعلنه مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون تنسيق "عمليات طوارئ الإغاثة"، أن فترة سبعة شهور الماضية شهدت تهجير ما لا يقل عن 315 ألف عراقي من مناطق سكناهم، بسبب العمليات العسكرية، أو الملاحقات الطائفية. وبلغ مجموع السكان المهجرين داخل العراق مليوناً ونصف المليون نسمة، إلى جانب عدد مماثل من اللاجئين العراقيين النازحين إلى البلدان المجاورة، حيث يجتاز الحدود إلى سوريا وحدها يومياً نحو ألفي عراقي. وذكر تقرير المنظمة الدولية أن العراق يعاني حالياً من أخطر ظواهر "نزوح الأدمغة"، إذ فقدت بعض الجامعات والمستشفيات نحو 80 في المئة من العاملين فيها، وترك البلاد ما يزيد على ثلث الأطباء والمهندسين والعلماء وأساتذة الجامعات. وناشد النداء الزعامات العراقية، الدينية والأثنية والثقافية، العمل على وقف عمليات "الهندسة الأثنية" والتطهير الطائفي الجارية، وذكر أن الجماعات الضعيفة العاجزة عن الهروب تتعرض لأكبر الأذى. وقال مسؤول الأمم المتحدة إن "فرق القتل الطائفية" تقضي يومياً على حياة مئة عراقي، ولا تستثني من ذلك أي فئة سكانية، حيث يوجد بين القتلى "رجال شرطة، وقضاة، ومحامون، وصحفيون، وأعداد متزايدة من النساء". وفي اليوم التالي لابتهاج أعضاء البرلمان بالموافقة على "القانون الفيدرالي"، حمّل وزير الداخلية جواد بولاني "أجهزة حماية المنشآت" المسؤولية عن عمليات القتل الجماعية. وأنكر بولاني في تصريح لمراسل صحيفة "واشنطن بوست" في بغداد توّرط قوات وزارة الداخلية، أو وزارة الدفاع في هذه العمليات، لكنه اعترف بأن الاعتقالات كشفت عن وجود أفراد من القوات المسلحة النظامية بين عصابات القتل. وادّعى أن عددهم قليل جداً، وقال إن التحقيق معهم يكشف غالباً عن انتمائهم إلى أجهزة "حماية المنشآت" التي يبلغ تعدادها نحو 150 ألفاً. وقد تأسس هذا الجهاز على أيدي المحتلين الأميركيين عام 2003 لحماية المنشآت، لكنه يعادل في الحجم حالياً قوات الاحتلال ذاتها. وذكرت مصادر عسكرية أميركية أن "أجهزة حماية المنشآت" تستهدف العراقيين السُّنة، وتترك علامات فارقة على ضحاياها الذين يُعثر على جثثهم مغلولة الأيدي، وجماجمهم محفورة بمثاقب كهربائية، وعيونهم مفقأة. واستبعدت هذه المصادر أن تقوم الحكومة العراقية بحل هذه الأجهزة التي تقودها أحزاب ومليشيات طائفية. ويدّعي جواد بولاني صعوبة السيطرة عليها لأنها تتبع، حسب قوله، وزارات ومؤسسات حكومية عدة، ويرتدي معظم أفرادها ملابس الشرطة، ويستخدمون سياراتهم أيضاً، وذكر أن بعض القائمين بجرائم القتل الجماعية يعمل في فرق الحماية الخاصة للمسؤولين. وما يخفيه وزير الداخلية العراقي يكشف عنه مستشاروه العسكريون الأميركيون. ففي تصريح لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، تحدث مسؤول عسكري أميركي عن قتل آلاف السُّنة في العراق منذ شهر فبراير الماضي، على أيدي مليشيات "قوات بدر" و"جيش المهدي"، اللتين تنسقان فيما بينهما، وذكر أن "قوات بدر" الأكثر خبرة، تتولى جمع المعلومات ووضع قوائم الاغتيالات التي تنفذها مليشيات "جيش المهدي". وقال المسؤول العسكري إن "رجال الدين يقومون في بعض الحالات بمرافقة فرق القتل، وتنظيم محاكم دينية للضحايا، ومباركة تنفيذ الأحكام فيهم". وصرّح مسؤول كبير في المخابرات الأميركية في بغداد لمراسل صحيفة "نيويورك تايمز" أن مقتدى الصدر فقد السيطرة على قوات "جيش المهدي" التي انشقت إلى فرق قتل وعصابات تعمل لحسابها الخاص. وذكر المسؤول أن ستة من زعماء هذه القوات لم يعودوا ينفذون الأوامر التي تصدر من الصدر، رغم استمرارهم في اعتبار أنفسهم أعضاء في "جيش المهدي"، وكونهم يتلقون الأموال منه. وقال إن بعض المنشقين ضاق ذرعاً بممالأة الصدر للأميركيين، في حين يرفض آخرون وقف عمليات الانتقام من قتل الشيعة على أيدي من يعتبرونهم "تكفيريين وبعثيين". ووفرت هذه الانشقاقات الفرصة لإيران التي لا تمانع، حسب المصدر الاستخباراتي، في تقديم الأموال والأسلحة للمنشقين. و"لعدم تأكد الإيرانيين ممن سيتولى الزعامة في الغد، فإنهم يموّلون كل الأطراف". وعندما تتعدد مصادر الأموال المخصصة للقتل يصعب التنبؤ بعدد القتلى. التقارير الأخيرة تدل على أن الشهر الحالي سيضرب رقماً قياسياً. وترسم المعارك الدائرة حول القاعدة العسكرية الأميركية في مدينة "بلد" صورة رهيبة للحرب التي تخوضها المقاومة العراقية منذ أكثر من 3 سنوات. فهذه القاعدة القريبة من بغداد تضم اثنين من أكثر الممرات الجوية ازدحاماً في العالم، حيث يبلغ عدد الطلعات الجوية شهرياً، حسب مصدر أميركي 28 ألف طلعة محملة بالقنابل والعتاد المستخدم ضد المقاومة. وتستميت واشنطن في لعب دور قائد أوركسترا القتل بين الأطراف المختلفة، بما في ذلك قتلاها الذين قد يسجل عددهم رقماً قياسياً هذا الشهر. وهكذا فما يجري في العراق اليوم ليس حرباً أهلية بين السُّنة والشيعة، بل مذابح جماعية تتنافس فيها جيوش الاحتلال، والمليشيات العِرقية والطائفية، ووليدتهما قوات المرتزقة والعصابات المأجورة الخارجة عن نطاق السيطرة. وسيظل هذا الوليد السفاح ينجب أفراخه المشؤومة التي لن ينجو منها قريب أو بعيد داخل العراق وخارجه. كان الله في عون العراقيين ومقاومتهم الوطنية، وهداهم إلى الصراط المستقيم وسط الأهوال العسكرية والسياسية والأخلاقية لأعقد معارك التحرير في التاريخ.