كأن الثقافة السياسية العربية لم تسمع عن الدور الإقليمي أو القوة الإقليمية إلا عندما بدأ الحديث عن إتمام انفراد إسرائيل بها في المنطقة أو اقتراب إيران من مواقعها. وهنا برز العنصر التقليدي الآخر في الثقافة العربية، وهو استحضار الذئب والشرير الذي يتربص بنا وحدنا دائماً في هذا العالم المليء بالذئاب والأشرار..! ومن هنا اكتملت حولنا في الفترة الأخيرة دوائر العداء للإسلام، وتحركات القوى الإقليمية الشريرة.. الخ. ولأن البابا "بنديكت" قد أخذ حظه من النقاش -أو مازال- فضلاً عن الانشغال عنه بإبداعات الفتوى والدعاة في شهر رمضان المبارك فنقتصر هنا على تناول الموضوع الذي يمكنني الاقتراب منه، وهو موضوع "الدور" الذي تنفرد به إسرائيل في منطقتنا أو ذلك الذي ترشحه لنفسها قوة ضاربة مثل إيران، في أجواء سياسات دولية "عولمية" تساند هذا وتقاوم ذاك، وفي ظل هذا الغياب لمدرك "القوة الذاتية" إقليمية أو قومية في منطقتنا، بل وممارسة الخوف من الغير فقط تنتشر فلسفة الدور وبناء القوة الإقليمية من أقصى شرقي آسيا، حتى أقصى جنوبي أفريقيا، وأطراف من القوى الصاعدة في أميركا اللاتينية. وما لم نبنِ في الثقافة العربية مساراً دائماً للجدل المستمر مع الكتل الثقافية والسياسية المتنوعة في العالم من حولنا وليس قصراً على "السيد" الشمالي، فإن جيلاً جديداً من السياسيين والمثقفين سيبقى سجيناً لمخاوف الذئب والشرير القريب منا فقط. والمؤسف في هذا الموقف أنه لا يجري التدقيق في تعريف القوى الإقليمية والعالمية التي تشكل "المخاطر" من حولنا لنفرق بين منافسات الدول ذات الدور الإقليمي والتي يختلف التعامل معها عن تلك "القوة الإقليمية الفرعية" للمركز العالمي المدعوم بالسيطرة العسكرية. فالدور الإقليمي يبدأ بالأساس مع قوة إقليمية ذات بنية ذاتية تعتمد على نفسها كدولة وطنية طموحة وتدير علاقاتها الخارجية من هذا المنطلق حتى لو اتسمت بطابع قومي أو ديني أو استثمرت أياً منهما فعلياً، ويبقى ذلك دائماً قابلاً للتنافس مع الغير وليس قائماً على نية الإخضاع للغير كما يتوهم الخائفون من الذئب دائماً. لذلك يدهشني الحديث دون تفرقة عن مصير المنطقة بمناقشة دور إيران أو تركيا القابل للمنافسة بنفس أسلوب الحديث عن الضربات الموجعة التي تحققها إسرائيل كقوة إمبريالية فرعية ضاغطة على النظام العربي. ولأن "النظام العالمي" أصبح لا يتكلم مؤخراً إلا بلغة القوة العسكرية التي تفرضها الولايات المتحدة على كافة التجمعات الإقليمية في العالم، حتى في أوروبا نفسها، ناهيك عن شرقي آسيا وأفريقيا، فإننا أصبحنا لا نعَّرف الشرير إلا بطاقته العسكرية، دون تفرقة بين هيمنة العولمة على كثير من النظم الإقليمية، وبين إمكانيات تحالفات إقليمية مستقلة أو مناهضة. لذلك فإن النظم الإقليمية، ومدى التنافس أو الصراع داخلها لابد أن تخضع لمنهجية تحليل أخرى، تضع في حساباتها معايير الوزن في التجارة الدولية، والقدرة الإنتاجية الذاتية، والنفوذ السياسي؛ التاريخي أو المعاصر لبنية الدولة الوطنية التحديثية، ومن ثم مدى القدرة على الالتفاف على القوة المركزية الضاربة في النظام العالمي نفسه. هنا سنكتشف بسهولة دور هذه العناصر في تحديد مدى حاجة العرب المباشرة لاستمرار الوعي بحقائق وضع الذات والآخر وفي إطار المنافسات الإقليمية أو مفهوم الصراع. وهنا أيضاً سيتوجب علينا إخراج إسرائيل من معادلة "القوى الإقليمية" التي تريد الولايات المتحدة تأطيرنا فيها تحت مسميات الشرق أوسطية. والآن فإن "النظام الإقليمي" قد أصبح أساساً لـ"التنظيم العالمي"، سواء ذلك "التنظيم الدولي" ممثلاً في تفريعات الأمم المتحدة، أو "نظام العولمة" الذي ترتب الولايات المتحدة الأوضاع داخله. وبينما يتطلب "النظام الإقليمي" بالمفهوم الدولي قواعد قانونية أو حتى عرفية للتعددية والتداخل (التكامل) أو الاندماج؛ فإن "نظام العولمة" يفترض في النظام الإقليمي وجود "قوة إقليمية" ضاربة للسيطرة على آلياته لصالح الدولة الكبرى. وهذا ما تطبقه الولايات المتحدة لصالح إسرائيل في مشروع الشرق الأوسط الكبير، أو الجديد بهذا المعنى وهي في نفس الوقت تخشى من تكراره خارج نفوذها في مناطق أخرى، مثل خوفها من الصين أو ماليزيا في شرقي وجنوب شرقي آسيا أو خوفها من بعض مراكز الفرانكفونية في أفريقيا فضلاً عن خوفها من تطورات داخل النظام العربي نفسه تجعله قابلاً للاختراق من خارج خطتها الموضوعة لفرض التفوق الإسرائيلي مع بقاء تبعية العناصر لعناصره الأخرى لصالحها. وقد عالجت الولايات المتحدة مخاوفها تلك مؤخراً بأشكال متنوعة. لقد سعى "رامسفيلد" بنفسه في يونيو الماضي إلى الاجتماعات الوزارية الباسيفيكية ليؤكد رغبة الولايات المتحدة المخلصة في الانضمام لأي تجمع إقليمي جديد في آسيا، وقد لفت نظري هذا "التودد" الأميركي الذي لا يبرره إلا خوفها من مناطحة رؤوس كبيرة تعرف قدر نفسها في هذه المنطقة من العالم الآسيوي لكن الولايات المتحدة تلك هي نفسها التي عوقت حتى الآن مشروع إصلاح الأمم المتحدة وعلى رأس قائمة الإصلاحات، وجود تمثيل قوى ـ"القوى الإقليمية" في مناطق مختلفة من العالم. عندما نتحدث إذن عن "الدور الإقليمي" لدولة ما أو مجموعة دول إقليمية فرعية، فإننا لابد أن نبحث في مصادر "القوة الإقليمية" التي تكفل الحضور لهذه القوة عل الصعيد الدولي. وليس مجرد الاختباء وراء الثروة أو التاريخ أو الموقع الجغرافي لإثارة المخاوف من هذا أو ذاك دون تفرقة بين شروط الصراع والتنافس. والملاحظة هنا أن "الصراع" محسوم بسند القوة العسكرية المركزية بعد تصفية الحرب الباردة، وهو في الغالب من قبل الشمال نحو الجنوب، وتجري تحولاته إلى مجال الاقتصاد والتقنية تدريجياً كما نشهد في الصراع الصامت بشرقي آسيا لمن يتابع السياسة الأميركية هناك. أما في بقية العالم الثالث أو عالم الجنوب، فإن "الصراع" هو فلسفة إسرائيل وحدها مع العرب، بقدر ما هو فلسفة الولايات المتحدة مع كوريا أو إيران... وبشكل ما مع الصين. هنا تبقى المنطقة العربية والأفريقية والأميركية اللاتينية في منطقة "تنافس متبادل" في "نظام إقليمي عالمي" متعدد الأطراف وفيما بين هذه المناطق وفي إطار هذا التنافس الإقليمي تتقدم دول -لسبب أو آخر- في صياغة التنافسات، فتصوغها إيران في الشرق الأوسط بطريقة كما تصغوها جنوب أفريقيا على مستوى القارة بطريقة أخرى، وتصوغها الهند في آسيا بطريقة ثالثة كما تصوغها البرازيل أو فنزويلا بطريقة رابعة. ولا نستطيع على مستوى بلدان الجنوب أن تتحدث عن "الذئاب والأشرار" بالطريقة العربية، لأننا هنا أمام منافسات إقليمية ضرورية مع اختلاف الأوزان في عملية التنمية والتطوير، بل ومع قدر الوعي بوزن كتلة بلدان الجنوب وقواها الإقليمية في النظام العالمي. ولننظر إلى محاولات دول أميركا اللاتينية الصاعدة للالتقاء مع نظيراتها الأفريقية والآسيوية مع اختلاف التقييم في حضور رئيس جنوب أفريقيا لاجتماعات الثمانية الكبار، أو الحضور الإعلامي البارز للرئيس الفنزويلي في الأمم المتحدة مؤخراً، هذا فضلاً عن حضور الهند المعروف هنا وهنالك. جنوب أفريقيا نفسها تهدد مكانة مصر الإقليمية بعناصر متعددة لا يبالي بها الكثيرون (استثمارات، اختراقات للمجموعات الإقليمية المحيطة في شرق وغرب القارة، قيادة تنظيمات إقليمية.. مثل النيباد.. الخ) بل إن إثيوبيا بدأت تبدو قوة إقليمية ذات تهديد في حوض النيل والقرن الأفريقي على السواء (السودان والصومال/ إريتريا..). فإذا ضعف النظام العربي في تنظيمه الإقليمي الداخلي (الدولي) كما ضعف بمحاصرة عناصره الأساسية بهذا الشكل دون نظر جاد في وضع عناصر قواه الإقليمية، فسوف نظل مجرد "تنظيم" إقليمي هش لا يقدر على "صراع" أو منافسة، لأنه لم يحدد جيداً دائرة "الشر" أو طبيعة الذئاب من حوله.