قد لا يكون جديداً القول إن العقل العربي والمسلم يمر الآن في واحدة من أسوأ المراحل في تاريخ أمتنا. ولعل أسوأ ما في ذلك على الإطلاق هو أن دور هذا العقل يتراجع, بل يتدهور, في لحظة تاريخية أصبح التقدم فيها مرهونا بمستوى المعرفة, وبالتالي بحالة العقل وقدرته على التفكير والاجتهاد وتقدير الأمور وصولاً إلى التطوير والابتكار, أي إنتاج المعرفة. ولذلك يعود تأخر أمتنا عن معظم العالم اليوم إلى حالة العقل السائدة فيها. وهي حالة لا تسر ولا تبشر بخير. فالعقل نائم في الغالب. وإذا استيقظ فليمارس شرحاً على المتون, أو ليعالج قضايا تقتضي قدراً كبيراً من العمق بسطحية باتت سمة ملازمة له في كثير من تجلياته, أو لينتج تعصباً وانغلاقاً وإلغاء للآخر ورفضاً للاختلاف الذي يعتبر سُنة من سنن الله تعالى في خلقه. قد يكون في هذه الصورة شيء من الاختزال, لأن الواقع العربي والإسلامي لا يخلو من إضاءات عقلية ومساحات منيرة. ولكنها جد قليلة قياساً بما هو مظلم أو معتم. ولدينا دليل جديد على ذلك في ردود الفعل العصبية والمتعصبة في مصر على ما نشره الدكتور محمد عابد الجابري في "وجهات نظر" حول "ما قيل إنه رُفع أو سقط من القرآن". فقد قوبل اجتهاد سعى إليه, واستند فيه إلى بعض من أهم علماء الدين في تاريخنا وإلى مصادر تدخل في عداد أمَّهات الكتب والمراجع, بوابل من نيران الغضب من بعض العلماء المصريين الأزهريين وغيرهم ممن يفترض أن يدعموا النزوع إلى الاجتهاد ويدعوا إلى استخدام العقل المعطَّل, لا أن يغلقوا أبواب التفكير ويتواطؤوا على تعطيل العقل. فأكبر آفات الأمة الآن هي أنها تفتقد, في سوادها الأعظم, نعمة العقل التي أنعم الله بها على الإنسان فميزه عما سواه وحمّله الأمانة الكبرى التي ناءت بها الجبال. وما الذي يضيرنا إذا اجتهد المجتهدون فأصاب بعضهم وأخطأ بعض آخر فتصدى للمخطئ من يصحح له ويعيده إلى جادة الصواب ما دام هناك مناخ عام يسمح بالحوار الموضوعي بمنأى عن المزاودات والمهاترات. ولكن هنا, تحديداً, نضع أيدينا على مصدر العلة, وهو غياب مثل هذا المناخ ليس فقط بسبب التسلط السياسي لأنه آخذ في الانحسار, ولكن أيضاً لافتقاد تقاليد الحوار وضعف القيم اللازمة لإحسان ممارسته, وفي مقدمتها احترام الرأي الآخر أياً يكن الخلاف معه والحرص على وجوده لأن في التنوع ثراء وفي الاختلاف رحمة. وليس أدل على غياب الحوار الموضوعي وافتقاد تقاليده من أن رد الفعل العصبي على ما طرحه د. الجابري تجاوز بعض علماء الإسلام الذين قد نفهم غيرتهم على الدين الحق بالرغم من أنها ليست في موضعها. لم تقتصر الردود الغليظة البعيدة عن الموضوع عليهم. امتدت إلى مثقفين وصحفيين وسياسيين يفترض أن يدعوا إلى ترك الزهور تتفتح لأن هذا هو الضمان الوحيد لهم من أن يتصيد خصم لهذا أو ذاك منهم مقالاً هنا أو خطاباً هناك لتكفيره أو تخوينه أو الطعن في شخصه أو في شرفه أو كرامته. وكان بعض هؤلاء المفترض أن يحموا حرية الفكر والتعبير أكثر حدة في مواقفهم وأشد عنفاً في ألفاظهم وعباراتهم من بعض علماء الدين الذين شاركوهم الهجوم على د. الجابري. وإذا كان هذا كله مؤسفاً, فمما يزيد الألم المترتب عليه أن بعض من انهالوا لوماً على مفكر عربي بحجم الجابري لا يعرفون عنه شيئاً ولا عن كتاباته وأفكاره التي ملأت الفضاء الثقافي والفكري العربي ودار حولها بعض من أكثر المجادلات أهمية في العقدين الأخيرين. وهذا في حد ذاته دليل على مدى تدهور المناخ العام. فأي تدهور ينتظرنا أكثر من أن يقول رئيس تحرير صحيفة مصرية عنه إنه "أحد كبار رجال الدين في الشمال الأفريقي"! فإذا كان هذا هو ما يعرفه عن أحد أكبر مفكري العرب والمسلمين في هذا العصر, فلا غرابة بعد ذلك في أن يتهمه بأنه أتى بما هو أخطر مما روجه بابا الفاتيكان, وأشد هولاً مما يزعمه أعداء الإسلام في أوروبا والولايات المتحدة! وفي هذا المقال, ومقالات أخرى من النوع نفسه, ما يكفي لأن نبكي بؤس حالنا وهواننا, وأن ندعو الله أن يحمي هذه الأمة من أمثال أولئك الذين انطلقوا في هجومهم على الجابري من المطالبة بحماية الدين الحنيف منه. والملاحظ أن من كتبوا هذه المقالات والتعليقات لا ينتمون إلى أي من تيارات أو حركات الإسلام السياسي, وإنما إلى أحزاب واتجاهات غير أصولية بما فيها الحزب الوطني الحاكم. وهذا في حد ذاته مؤشر خطر رهيب. ولم يكن في كل ما كتبوه مناقشة لما كتبه الجابري, أو مقارعة لما طرحه بالحجة والبرهان, أو سعي إلى حوار يفيد في معالجة القضية التي طرحها ويقدم للناس معرفة يحتاجون إليها. كما خلت كتاباتهم كلها من فكرة واحدة تستحق المناقشة, بينما امتلأت بالاتهام والتهديد ومحاولة التأليب على كاتب يقدم فكراً وينتظر مناقشة فكرية لا حملة "تتارية". وهذا فضلاً عن السباب الذي يهبط بمن يلجأ إليه إلى درك أسفل, ويثير الأسى, لما وصلت إليه لغة الخطاب في كثير من الأوساط العربية الإعلامية والسياسية والثقافية. فويل لأمة يكون القلم بين يدي بعض صحفييها والكلمة في أفواه بعض سياسييها سيفاً بتاراً يقطع الرؤوس, وليس مصباحاً يضيء المساحات المعتمة ويهيئها لحوار موضوعي مثمر. ومن أخطر ما كشفه هذا الهجوم على الجابري هو استخدام التعصب ضد الإسلام في بعض الدوائر الغربية ذريعة لتبرير وتدعيم وتوسيع نطاق القيود المفروضة على حرية الفكر والتعبير في بلاد الإسلام! فقد شاع, في الهجوم على الجابري, ربط غير واع بين ما كتبه والهجوم على الإسلام ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. وفي هذا الربط من السطحية ما يكفي وحده لدق ناقوس الخطر ليل نهار حتى إذا لم يصحب ذلك ضعف المعرفة وكره العلم والنفور من الحوار وشيوع التعصب. ومع ذلك, كانت هناك مساحة منيرة في ردود الفعل المصرية على ما كتبه الجابري نجدها في ثلاث مقالات عبرت عن جزع شديد لما وصلنا إليه من زوايا متعددة. كانت الزاوية الأولى, التي ركز عليها د. سعيد اللاوندي (الأهرام 2/10/2006) هي أزمة الليبرالية في العالم العربي وقد تجلت في "أننا ضقنا ذرعاً بأي رأي يراه بعضنا مغايراً لآرائهم, وتنكرنا للعقول الباحثة المتأملة والأذهان المتوقدة التي تبحث عن الحقيقة, وأخذنا الأسهل وهو اتهامها بالضلال والانحراف". وهو يصل, في معالجته من هذه الزاوية, إلى أن طرح هذا النوع من القضايا الخلافية يحث على حرية التفكير ووضع حد للأحادية ومحاولة لبعث الصوت الآخر من جديد. أما الزاوية الثانية, التي اهتم بها حلمي النمنم (المصري اليوم 5/10/2006) فهي أن الحديث الذي كثر عن تجديد الخطاب الديني منذ هجمات سبتمبر 2001 لم يسفر عن شيء. فالخطاب هو تعبير عن فكر. والفكر الديني يتجه نحو مزيد من التشدد. ولا يمكن للخطاب أن يكون غير ذلك. فما هو إلا شعار من بين شعارات عدة نرفعها ولا تعني شيئاً مثل الإصلاح السياسي والتعددية وتداول السلطة وغيرها. ويتداخل جانب من هذه الزاوية, وهو غياب الردود والمناقشات العلمية وحضور الشتائم والمهاترات, مع الزاوية الثالثة التي عنى بها د. عبد المنعم سعيد (نهضة مصر, 9/10/2006) وهي الفرق بين المناظرة والمهاترة. وهو فرق لم يعد واضحاً في الحياة السياسية والفكرية العربية إلا قليلاً. فقد لاحظ أن ما طرحه الجابري وإن لم يكن جديداً جعل الكثير يتطلعون إلى مناظرة فكرية كبرى يتعلمون منها أو يزدادون معرفة, وخصوصاً من الأجيال الجديدة الراغبة في أن تعرف. ولكن الذين انتظروا مناظرة لم يجدوا إلا مهاترة "رفيعة المستوى". وهكذا كانت هذه المقالات بمثابة "بلسم" قد يفيد في تهدئة الآلام المبرحة, ولكن لا يعالج الأمراض الخطيرة التي تفتك بأمة تستحق بالتأكيد أفضل مما هي فيه. ولكنها لن تناله إلا حين تفطن إلى ما يفعله العقل المستنير الذي نقل عالمنا إلى عصر المعرفة, وما تفعله هي, أو كثير من أبنائها, بعقلها الذي نقل العلم إلى العالم ذات اليوم قبل أن يتدهور به الحال ويعجز حتى عن أن يتعلم ممن سبق له أن علمهم.