فجأة تحوّل "ساحر تائب" قادم من إحدى الدول العربية الشقيقة إلى "نجم إعلامي" يقفز حديثه عن تجربته في ممارسة السحر والشعوذة ليحتل صدارة "مانشيتات" الصحف المحلية، وفجأة تحوّلت الندوة، التي حضرها هذا "الساحر السابق"، إلى موضوع للنقاشات بين العامة وعلى صفحات الجرائد أيضاً! اللافت في هذه القصة أن الحاضرين في الندوة، التي شارك فيها "الساحر التائب"، قيل إنهم بلغوا نحو عشرة آلاف من الجمهور، وربما فاقت أي ندوة أخرى من بين عشرات الندوات والمحاضرات التي عقدت خلال الشهر الفضيل، علماً بأن هذه الندوات والمحاضرات شارك فيها كوكبة من علماء الدين ورجالات الفكر ورموزه من مختلف دول العالم الإسلامي! الناس بطبيعتهم لديهم شغف تقليدي بحديث السحر والسحرة، ولكن الغريب أن تنظم ندوة يستعرض فيها "الساحر التائب" تجربته ويلتئم فيها هذا الحشد الكبير بدعوة من هيئة رسمية معنية بالسياحة والتسوّق! أغلب الظن أن هدف هذه "التجربة" كان التوعية من خطر اللجوء إلى السحرة والمشعوذين، ولكن الواضح أن حديث التوعية قد تراجع بل وسقط تماماً، في حين طغى الحديث عن رحلة الساحر وتجربته طوال هذه السنوات وكيف تمّ "تنصيبه" وقبوله عضواً رسمياً لنيل لقب "ساحر" لدرجة أن كلماته في هذا الإطار تحوّلت إلى "مانشيت" رئيسي لصحيفة محلية معروفة! الكلام في "تفاصيل" ماضي الساحر قد لا يتناغم مع الأجواء الإيمانية والمحاضرات الدينية والفكرية التي باتت سمة مميزة لليالي رمضان في الإمارات، والتركيز على هذه التجربة وإتاحة الفرصة لاستعراضها بهذا الشكل لا يضمن تحقّق الهدف التوعوي المنشود، لأن السرد جاء على طريقة الأفلام السينمائية الهابطة التي تركز على دراما الصراع وتستفيض في استعراض القدرات الخارقة للبطل الشرير ثم لا تمنح انتصار الخير في النهاية سوى لحظات لا يمكن مطلقاً من خلالها معادلة الأثر النفسي السيئ الذي تكرّس لدى المشاهدين طوال زمن عرض الفيلم. هذه الواقعة تطرح تساؤلات عديدة أولها: ما طبيعة العلاقة المفترضة بين استعراض تجربة الساحر التائب وملتقى فكري يعقد في شهر رمضان المبارك؟ وكيف يسمح باستعراض تفاصيل هذه التجربة رغم ما تنطوي عليه من تجاوزات دينية وأخلاقية؟ هذه وغيرها تساؤلات تدور في عقول كل من تابع النشر والجدل الدائر حول هذا الموضوع. والخلاصة أن جهود التوعية من خطر السحر والشعوذة تؤتي أكلها بهذه الطريقة، فدولنا العربية التي تشير بعض التقديرات إلى أن مواطنيها ينفقون نحو خمسة مليارات دولار سنوياً على الدجل والشعوذة، ليست بحاجة إلى مزيد من "الحكايات" بقدر ما هي بحاجة إلى مواجهات فكرية جادة لاستئصال ثقافة الخرافة والشعوذة من العقول، خصوصاً أن الإقبال على هذه الممارسات لا يقتصر على العامة وأنصاف المتعلمين بل يطال أناساً يفترض فيهم العلم والثقافة، لدرجة أن هناك إحصاءات تشير إلى وجود نحو ربع مليون دجّال في مختلف دول العالم العربي، وأن نحو نصف نساء العرب يعتقدن بفعل الخرافات والخزعبلات، وأن معظم هؤلاء يتردّدن على المشعوذين سراً وعلانيةً! الخلاص من هذه الأوبئة الفكرية لن يتأتى سوى من خلال الجهود الإيجابية التي تغرس القيم الدينية المستنيرة في النفوس وتكافح الجهل والأمية والأفكار المتطرفة والظلامية، والنهوض بالمرأة ومحو الأمية الثقافية والدينية لدى المرأة العربية باعتبارها الضحية الأساسية للجهل والتخلّف، حيث تحتل النساء والفتيات نسبة 63% من إجمالي 70 مليون عربي يعانون الأمية. عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية