الجمعية الوطنية الفرنسية قبلت مشروع قرار يُجرم إنكار إبادة الدولة التركية للأرمن إبان إنهيار الأمبرطورية العثمانية خلال الفترة من 1915 إلى1917. آنذاك تعرض الأرمن في الأناضول التركي- وبحسب المؤرخين الأكثر صدقية ممن تناولوا هذه المسألة- إلى حملة إبادة عرقية على يد النظام التركي، تراوح عدد من سقطوا جراءها بين مليون ومليون ونصف المليون أرمني. "الهولوكوست الأرمني" سبق الهولوكوست اليهودي على يد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية, والذي كان من ضحاياه ستة ملايين يهودي غير الضحايا من الغجر وكبار السن و"غير النافعين". مشكلة "الهولوكوست الأرمني" أنه تعرض لحملة إنكار واسعة النطاق, طبعا من جانب تركيا في المقام الأول, لكن أيضاً من جانب كبير من العالم الغربي الذي أراد أبقاء صفة "الهولوكوست" محصورة في التاريخ اليهودي الحديث لأسباب واضحة وليست بريئة, ونظراً لموقع تركيا المركزي في الحلف الغربي ضد الإتحاد السوفييتي خلال حقبة الحرب الباردة. لم تكن أوروبا ولا الولايات المتحدة في وارد فتح سجلات التاريخ وإدانة تركيا أو مطالبتها بأن تعترف ثم تعتذر عن جريمة إبادة الأرمن، كما صار مع ألمانيا التي أذلت حتى الرمق الأخير اعترافاً واعتذاراً ثم تأييداً لإسرائيل جراء ما فعلته مع اليهود. والمستشرق المعروف والمتحامل "برنارد لويس"، كان من قادة المؤرخين الذين أنكروا الإبادة الأرمنية، وذلك في سياق حماسه لتركيا "الأتاتوركية" وتحالفها مع الغرب. في سياق ذلك وإزائه, وأولاً وأخيراً, يجب القول إن القرار الفرنسي متوتر وسلطوي، وكل الأمل ألا تتم المصادقة عليه. التاريخ لا تكتبه القوانين, يكتبه المؤرخون والبحث العلمي الحر. والسجال حول الجرائم التاريخية هو سجال يجب ألا تحسمه القوانين, بل المؤرخون, وربما يظل النقاش فيه مفتوحاً إلى الأبد. وهذا ينطبق أيضاً على كل التشريعات الأوروبية والأميركية التي تحظر نقاش مسألة المحرقة اليهودية على يد هتلر وتجرمها قانونياً. مناقشة المحرقة اليهودية يجب أن تكون مفتوحة, وتجريم الحديث فيها أو نقضها أمر مناقض لجوهر الحرية الفكرية. فمثل هذه التشريعات تفرغ عملها الجوهري, أي حرية الفكر وحرية الرأي وحرية البحث العلمي من قيمتها, التي هي إحدى أهم مرتكزات الحداثة الغربية المعاصرة. في مراحل لاحقة في القرن العشرين، كانت هناك أنواع أخرى من "الهولوكوست", منها ما فعله "بول بوت" والخمير الحمر في كمبوديا, حيث أبيد ما بين مليون إلى ثلاثة ملايين خلال حقبة حكمهم للبلد في السبعينيات. ثم كان هناك "هولوكوست فيتنامي" في الستينيات وبداية السبعينيات على يد الجيش الأميركي, ومرة أخرى تختلف تقديرات الضحايا لكنها لا تقل عن المليون والنصف مليون أيضاً. وفي التسعينيات شهدنا جميعا الأبادة المخجلة في رواندا حيث سقط ما لا يقل عن مليون إنسان بريء تبعاً لإثنيتهم على مرأى ومسمع العالم. وفي التسعينيات أيضاً كانت هناك إبادات أقل حجماً من ناحية عدد الضحايا لكنها لا تقل بشاعة, وفي مقدمتها ما حصل للمسلمين في البوسنة وكوسوفو. موضوعياً تختلف هذه "الهولوكوستات" عن بعضها من ناحية الحجم وطبيعة القتل الجماعي والدافع من ورائها. وبالتأكيد فإن الهولوكوست اليهودي كان أبشعها وأكثرها إنحطاطاً لأنه نُفذ وفق رؤية "علمية" وكانت دوافعه عنصرية بحتة. لكن هذا لا يقلل, ويجب ألا يقلل, من الاهتمام بآلام الضحايا في المواقع الأخرى, ولا طبعا بما فعله أحفاد ضحايا الهولوكوست اليهودي من جرائم في فلسطين وبحق الشعب الفلسطيني الذي دفع ثمن جريمة قامت بها أوروبا ضد اليهود. يجب عدم إنكار أي من هذه الجرائم البشعة التي نفذت ضد الإنسانية, ويجب الاعتذار عنها لأن الاعتذار هو بداية الشروع في تصحيح ما ترتب على تلك الجرائم. لكن في الوقت نفسه يجب ألا يتدخل القانون ويحظر أو لا يحظر إنكارها أو البحث فيها, فكتابة التاريخ, مرة أخرى, ليست من اختصاصات القانون. ما يُسيء أكثر في مسألة صدور القانون الفرنسي والخفة التي لازمت النقاش حوله هو أنه محمل بالتسيس وغير بريء, لا من ناحية الهدف الحالي من ورائه, ولا من ناحية التوقيت. فهو يأتي قبيل الحملة الانتخابية الرئاسية والتي يخوضها نيكولا ساركوزي, المنحدر من أصول أرمنية, والذي يريد أن يدغدغ عواطف أكثر من أربعمائة ألف أرمني في فرنسا يمثلون أكبر جالية أرمنية في أوروبا. وكما حدث ويحدث في أكثر من بلد أوروبي خلال الحملات الانتخابية يلجأ السياسيون وبانتهازية فجة إلى استغلال كل القضايا التي من الممكن أن تزيد من أصواتهم, كما هي عادة أحزاب "اليمين" والعنصرية في إثارة مخاوف مواطنيهم من السود والملونين سابقاً, ومن العرب والمسلمين راهنًا. وذلك, بجلاء لا يغيب على حصيف, لا يقود إلا إلى تسعير الحقد العنصري وتهيئة المناخ لكل أنواع الممارسات العنفية. والتوقيت الانتهازي للقانون الفرنسي يضر أكثر ما يضر بفكرة إلتحاق تركيا بالإتحاد الأوروبي وهي الفكرة التي صوت ضدها غالبية الفرنسيين, ويأتي هذا القانون ليعمق تلك الضدية, رغم أن جاك شيراك وسياسيين كثر يدعمون فكرة عضوية تركيا في النادي الأوروبي. لماذا سكتت فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة طيلة عقود على مسألة الهولوكوست الأرمني ولم تطالب تركيا بالاعتذار عنه, وصعد الموضوع إلى السطح بهذه القوة هذه الأيام؟ الجواب هو أن تركيا العضو القوي في الحلف الأطلسي, الذي وقف حاجزاً قويا في وجه النفوذ السوفييتي في المنطقة, كانت أهم للغرب من أن تُثار ضدها زوابع "أخلاقية". وعندما تُثار الآن مسألة الأبادة الأرمنية وفي نفس العواصم التي تعودت على السكوت المخجل إزاءها فإن عدم الصدقية يفرغ الدعوات الجديدة من أي حمولة أخلاقية. في فرنسا إذن, وفي خضم الصراع الانتخابي الرئاسي يتنافس نيكولا ساركوزي وسيغولين رويال على المزايدة بشأن إجبار تركيا على الاعتذار عما فعلته ضد الأرمن, وهي لن تفعل. في تركيا, في المقابل, هناك اليوم صراع حاد بين الإسلاموية الحداثية الجديدة والقومية التركية المتشددة بمضمون علماني صارم (لا تجاريه صرامة العلمانية الفرنسية نفسها), وكلاهما تتنافسان في إنكار الإبادة الأرمنية وكأن ذلك يمس جوهر الهوية التركية. تركيا يجب أن تقر بتلك الإبادة وتعتذر عنها من دون أن تنتظر ضغوطات أوروبية أو غربية عليها. على تركيا أن تتصالح مع نفسها وتدرك بأنها لم تعد تلك الأمبرطورية العثمانية التي يمكن أن تتعامل بالملل والنحل كما تشاء, فتؤلب الأكراد ضد الأرمن وتتركهم يتطاحنون إرضاء لها, كما حصل في أواخر تاريخ الامبرطورية. ضمير ووجه تركيا الحقيقي اليوم هو كاتبها الكبير "أورهان ياموك", الحائز على نوبل للآداب هذا الأسبوع, ببن اسطنبول وعاشقها وسارد حكاياتها. هو العثماني والحداثي والأوروبي في آن معا. وهو الصوت الشجاع الذي أدان إبادة بلده للأرمن واضطهادها للأكراد, لكنه المتجذر في بلده والعاشق لها والمدافع عن هويتها. الهوية الحقيقية تبدأ بتطهير الذات مما فعلته ضد الآخر.