لطالما ردد الكثيرون مقولة غير صحيحة، تفيد بأن الإنسان يستخدم 10% فقط من قدراته العقلية. ورغم أنه من غير المعروف بالتحديد، كيف نشأ هذا الاعتقاد الخاطئ بين العامة من الناس، فإنه ترك انطباعاً ثقافياً فولكلورياً، بأنه من الممكن تحسين الأداء العقلي للأفراد، من خلال أساليب وطرق متنوعة، تزيد من مقدار ما يستخدمونه من خلايا مخهم. هذا الانطباع الشعبي، أتاح الفرصة للكثير من الدجالين والنصابين، لبيع أنواع مختلفة من المنتجات والنصائح، تساعد حسب زعمهم على استغلال طاقات المخ بشكل أفضل، وتعين الفرد على رفع مستوى ذكائه، وتزيد من قوة ذاكرته وبقية قدراته العقلية. هذا لا يعني أن الأطباء والعلماء لا يسعون بالفعل، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، إلى تحسين القدرات العصبية للمخ البشري من خلال عدة أساليب وطرق مختلفة، مثل الأدوية والعقاقير الطبية، أو الاستثارة الكهربائية، أو حتى التدخلات الجراحية. هذه الجهود أخذت مؤخراً منحى أكثر إثارة، مع زيادة إيمان الكثيرين بأن المستقبل القريب سيحمل معه طرقاً وأساليب أكثر تعقيداً على صعيد زيادة قدرات وإمكانيات المخ البشري. من هذه الطرق والأساليب، تلك المعتمدة على خلق اتصال مباشر بين أجزاء المخ ومكونات الكمبيوتر، وهو المجال الذي يطلق عليه (brain-computer interfaces)، أو "واجهات التواصل المخية-الكمبيوترية". في هذا الأسلوب نجد أن الكمبيوتر أو الآلة، تتلقى تعليماتها بشكل مباشر من خلايا المخ، ودون الحاجة إلى تحريك أي من أعضاء الجسم. ففي الوضع الحالي، نستخدم جميعاً أجهزة الكمبيوتر من خلال أوامر عصبية، تنتقل عبر الأعصاب الحركية إلى عضلات أصابع اليدين، والتي تقوم بدورها بالضغط على لوحة المفاتيح، المتصلة بشكل أو آخر بالمعالج الكمبيوتري (CPU). وهو ما يعني وجود ثلاث أو أربع مراحل، بين ما تصدره خلايا المخ من أوامر، وبين وصول هذه الأوامر إلى معالج الكمبيوتر لتنفيذها. بينما في الأسلوب الجديد، أو في واجهات التواصل المخية-الكمبيوترية، نجد أن الاتصال بين خلايا المخ وبين المعالج الكمبيوتري، هو اتصال مباشر ومن دون أية وسائط. بحيث يصبح المعالج الكمبيوتري جزءا امتداديا من المخ، أو أن يصبح المخ جزءا امتداديا من الكمبيوتر، حسبما يتسنى لك أن تراها. ولتقريب هذا المفهوم إلى الأذهان، يمكننا أن نسترجع نتائج دراسة، كانت قد نشرت في شهر يوليو الماضي في الدورية العلمية المرموقة "نيتشر". في هذه الدراسة والتي أجراها علماء جامعة "براون" بولاية "رود آيلند" الأميركية، استطاع الباحثون مساعدة شاب يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً، كان قد كُسر عموده الفقري وقُطع حبله الشوكي العصبي تماماً، مما أفقده التواصل بين مخه وأطرافه. ولذا قام العلماء بزراعة صف أو منظومة كاملة من الأقطاب الكهربائية في منطقة المخ المسؤولة عن الحركة، والمعروفة بالقشرة المخية الحركية، ثم وصلوا هذه الأقطاب بجهاز الكمبيوتر بشكل مباشر. وعلى الرغم من أن القشرة المخية الحركية للمريض، كانت قد فقدت لمدة ثلاث سنوات أية اتصال لها ببقية الجهاز العصبي والحركي، فإن المريض تمكن باستخدام تلك الأقطاب الكهربائية من تحريك مؤشر كمبيوتر (computer cursor)، مما مكنه من فتح بريده الإلكتروني، وتشغيل التليفزيون، وتحريك ذراع ميكانيكية آلية. مثل هذا الإنجاز الهائل، يعتبر حصاد عقود طويلة من الدراسات والبحوث في مجالات مختلفة، مثل علوم الكمبيوتر، والهندسة، ومجال الدراسات العصبية البيولوجية في كل من الحيوان والإنسان، وغيرها من المجالات العلمية المتنوعة. ولكن، رغم أهمية هذا الإنجاز، لايزال الطريق طويلاً، حتى تصبح مثل هذه التكنولوجيا متوفرة في الاستخدامات الطبية اليومية. وهي الاستخدامات التي يأمل البعض أن تعتمد على تصنيع وتطوير أجهزة استعاضة عصبية (neuroprostheses)، مثلها مثل أجهزة الاستعاضة الحركية المستخدمة في حالات بتر الذراعين أو الساقين. ولكن ستتميز هذه الأجهزة العصبية الاستعاضية، بانخراطها تحت مواصفات الأجهزة "البيونيك" المعنية بتحسين القدرات الطبيعية. "فالبيونيك" كمفهوم، أما أن يكون دراسة استخدام القدرات البيولوجية الطبيعية، في تحسين أداء الآلة والكفاءة الهندسية للمعدات. أو أن يعنى بتحسين أداء القدرات البيولوجية الطبيعية، من خلال استخدام الأجزاء الهندسية والإلكترونيات. فمثلاً في حالة الذراع البشرية، يمكن زيادة قدراتها الطبيعية بشكل هائل، من خلال دمجها مع روافع ميكانيكية تعمل من خلال بطاريات قوية، يتحكم فيها جهاز كمبيوتر يندمج مع التحكم العصبي الطبيعي. وبناء على هذا المفهوم، يصبح نظرياً من الممكن استخدام واجهات الاتصال المخية الكمبيوترية، أو أجهزة الاستعاضة العصبية، ليس فقط في استرجاع ما فقدناه من قدرات بسبب المرض والإصابة، بل أيضاً في زيادة قدراتنا الطبيعية والوصول بها إلى مستويات شبه خارقة. فمثلاً، يمكن من خلال تعريض المخ لصدمة كهربائية، زيادة قدراته الإبداعية، أو أن يتيح استغلال الموجات الكهربائية في المخ، تحقيق نوع من الحركة الافتراضية في عالم إليكتروني افتراضي هو الآخر. هذه الاحتمالات والتطبيقات، هي موضوع معرض علمي مقام حالياً في العاصمة البريطانية، تحت عنوان "الروبتات العصبية– مستقبل التفكير؟" (NEURObotics – The future of Thinking). هذا المعرض الفريد، بخلاف محاولة سبر أغوار التطبيقات المحتملة للتواصل بين المخ والمعالجات الكمبيوترية، سيؤدي أيضاً بما يحتويه من أفكار واختراقات علمية حديثة، إلى تسليط الضوء على مستقبل التزاوج بين خلايا المخ وأجهزة الكمبيوتر، وما سيحمله هذا التزاوج من تبعات اجتماعية وأخلاقية على تطور مسيرة الجنس البشري.