ما السر في هذا الحضور المكثف للعناصر الباكستانية في العمليات الإرهابية؟ لماذا فعلاً، كما تساءل مراسل إحدى الصحف العربية مؤخراً في تقرير له من هناك، نلاحظ أنه "منذ بدأت ظاهرة التطرف الأصولي تمتد لتشمل العالم كله، لم تحدث عملية إرهابية في أي مكان بالعالم، إلا ووُجدت (حلقة وصل) تربطها بباكستان، سواء في التمويل أو التنظيم أو التخطيط أو التجنيد، بدءاً بتفجير السفارة المصرية في إسلام أباد، مروراً بهجمات 11 سبتمبر 2001، وتفجيرات لندن في7 يوليو 2005، انتهاءً بمخطط الإرهاب السائل لتفجير طائرات في الجو بين لندن ومدن أميركية". بدأت أزمة المسلمين في شبه القارة الهندية ربما مع "عصيان 1857" ضد الإنجليز، حيث لعب المصلح المعروف "سير سيد أحمد خان" (1817-1898) الذي انتبه مبكراً إلى مشكلة الانقسام الديني في الهند، فقال في كلمة ألقاها عام 1883: "والآن لنفرض أن كل الإنجليز قد غادروا الهند، فمن ترى سيكون حكام الهند؟ هل من الممكن في هذه الظروف أن الأمتين كلتاهما -أي المسلمين والهندوس- ستجلسان على العرش نفسه وتكون لهما سلطة متساوية مستمرة؟ قطعاً لا. فلابد لإحداهما من أن تُخضع الأخرى وتقهرها، ولأن يأمل المرء أن تظل الأمتان متساويتين فهو إنما يرغب في المستحيل والذي لا يمكن تصوره". (انظر: نشأة باكستان، شريف الدين بير زادة، جدة 1969، ص 70). وعندما حاولت "إحدى الأمتين" أن تخضع الأخرى في بدايات القرن العشرين، انتهى الصراع بين المسلمين والهندوس بالانفصال، فاستقل معظم المسلمين في دولة لا تزال من أكثر الدول الإسلامية سكاناً. وقد اختير لها يومذاك، وسط آلام الانفصال والمذابح وتبادل السكان مع الهند، اسم بنقاء العاج، طالما حلم به قادتها، وهو باكستان التي تعني حرفياً أرض الأطهار. دعيت البلاد بموجب دستور عام 1956 "جمهورية باكستان الإسلامية، وعندما تغير الدستور عام 1962 حذفت عنها الصفة "الإسلامية" لتصبح جمهورية باكستان، ثم تعود لها لاحقاً! وقد رافق هذا عبر تاريخ البلاد صراع سياسي مع الأحزاب الإسلامية، رافقته عدة تحولات وانقلابات واعتقالات. لا تزال مستمرة! كان العامل الديني إذن مصدر اختلاف وصراع بقدر ما كان محدداً لشخصية وهوية البلاد، وكان الأساس الديني لبزوغ باكستان السبب البديهي لظهور الجماعات الإسلامية المعتدلة والمتشددة، ثم لإيواء جماعات أكثر تشدداً فيها فيما بعد! وبعكس الهند، جارتها الهندوسية حيث ترسَّخت فيها إلى حد كبير الحياة الدستورية البرلمانية والتوجه العلماني، طغت الشخصية الدينية على الحياة السياسية في باكستان، وتبارت الأحزاب الإسلامية، ورجال الدين والسياسة، في محاولة لتحطيم البناء الدستوري والديمقراطي الهش لباكستان، ولصالح "النظام الإسلامي". ومن أبرز الأحزاب الإسلامية التي أسست للتشدد الديني في باكستان باسم الوسطية والاعتدال "الجماعة الإسلامية"، التي أسسها الداعية الشهير "أبو الأعلى المودودي" (1903-1989). الذي كان لأفكاره ومؤلفاته المترجمة إلى عدة لغات، تأثير هائل على كافة الأحزاب الإسلامية، وبخاصة "الإخوان المسلمين". فقد غذى التوجهات المتشددة لدى سيد قطب والعديد من الأحزاب الجهادية في مصر وخارجها، إلى جانب آلاف الآخرين في شمال أفريقيا ودول الخليج وآسيا الوسطى، ولندن وباريس ونيويورك! تعرضت التجربة الباكستانية لانتكاسة هائلة عام 1971 عندما انفصلت عنها بنغلادش، ولكن ذلك لم يؤثر كثيراً على التشدد الديني فيها. وساهمت الحرب الأفغانية والغزو الروسي في تحولات ضخمة داخل التيارات الدينية وتمويلها. وقد صرح الرئيس الباكستاني مُشرف، "أن هناك ما بين 20 ألفاً إلى 30 ألف ناشط أصولي قدموا إلى باكستان من شتى أنحاء العالم خلال الحرب ضد الجيش السوفييتي في أفغانستان"، وكان تمويلهم وتوفير حاجاتهم اللوجستية يمران عبر باكستان. فلا غرابة في أن تكون القضية الأفغانية وشبكة "المجاهدين" التي تقاطرت على بيشاور وغيرها، هي إحدى جذور نمو خلايا التطرف في المرحلة الحالية.. والقادمة! حصل التيار الديني المتشدد داخل المؤسسات الباكستانية التعليمية وغيرها، وكذلك بعض الأحزاب الدينية على دعم قوي من الجماعات السلفية الخليجية. وقد غذت هذه الجماعات الباكستانيين بالأموال وبالتوجهات الطائفية التكفيرية، والتي لم تكن تعرفها البلاد على هذا النطاق. وعمل التمويل الخليجي على نشر الكتب والأشرطة والصور ضد بعض طوائف المجتمع الباكستاني، وهكذا بدأت حرب تفجير المساجد واغتيال الشخصيات الدينية بشكل متبادل! وتلعب الاضطرابات السياسية والسكانية والقبلية والقومية، دوراً لا يستهان به في إدامة عدم الاستقرار في الحياة الباكستانية، فالبنجابيون يشكلون نصف المجتمع وهم المهيمنون سياسياً وعسكرياً على البلاد. ولهذا لا تشعر القوميات والجماعات الأخرى كالبشتون والبلوش وجماعات "المهاجرين"، الأُردية اللغة والمهاجرة لاحقاً من المناطق الإسلامية في الهند، بوجود فرص متساوية اقتصادياً واجتماعياً في البلاد. ويؤدي الفساد المالي ودور الجيش والتخلف الاجتماعي إلى عدم الاستقرار، وبعكس ما يتصور الكثير منا، فإن المجتمع الباكستاني شديد العداء لحرية المرأة وحقوقها ومشاركتها في الحياة العامة. ولا تزال مساهمة المرأة محصورة في المدن وبين الطبقة الوسطى والثرية، وفي بعض الحالات والجرائم وقضايا الشرف، يتم قتل النساء من قبل الأقارب أو تتعرض المرأة للاغتصاب الجماعي دون رحمة. وللكثير من رجال الدين دور بارز في دعم التشدد وبناء الجماعات المتطرفة، بسبب نوعية الثقافة الدينية اللامتسامحة والمعادية للآخر داخل وخارج باكستان، التي يبشرون بها. وهذا ما يلمسه كل من يدخل في حوار مع الباكستانيين وبخاصة البسطاء منهم. ويعتمد رجال الدين المتشددون على بنية تحتية قديمة، قوية ومتمكنة من المدارس الدينية. وحسب مقال نشر في إحدى الصحف العربية، تخوض السلطات الباكستانية معركة شرسة في إطار محاولتها فرض سيطرتها على هذه المدارس: "وسبب المعركة الشرسة، ليس فقط أن هناك (1.7) مليون طالب منتظمين في نظام التعليم الديني، في أكثر من 12 ألف مدرسة، وأنهم لا يرغبون في أن تتحكم السلطات بمدارسهم ونظامها ومناهجها، بل كذلك لأن المدارس الدينية في باكستان، التي يعود تاريخها إلى نحو 500 سنة، تلعب دوراً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً لطلابها، فيعيش الطلاب في مساكن تتبع المدرسة، ويتناولون فيها طعامهم، وتمدهم بمساعدات مالية، ودعم معنوي كبير، وهي باختصار نظام حياة وليس فقط نظام تعليم". وتحاول الدولة، التي تبذل منذ سنوات جهداً كبيراً في مكافحة الإرهاب والتشدد الديني، أن تطعِّم مناهج هذه المدارس ببعض المواد العصرية كالإنجليزية والرياضيات وعلوم الكمبيوتر، وينضم أكثر من نصف الطلاب للمدارس الدينية لأسباب اقتصادية، وهو ما يعني أن تلك المؤسسات تعتبر بؤرة مناسبة لتجنيد المقاتلين، من الباكستانيين ومن الطلبة الأجانب الذين يدرسون فيها. لا يزال صراع التشدد والاعتدال في باكستان، ممثلاً في القيادة السياسية والنخبة العصرية والكثير من المثقفين من جانب، والأحزاب والقوى الدينية وأنصارها من جانب ثانٍ، بعيداً عن نهايته وعن تحقيق الاستقرار في البلاد، رغم العديد من النجاحات البارزة وتعاون الحكومة الباكستانية مع الجهد الدولي ضد الإرهاب، كما تجلى مؤخراً في الدور الأساسي الذي لعبته أجهزة الأمن الباكستانية في كشف مخطط تفجير الطائرات المدنية الأميركية بركابها فوق المحيط الأطلسي. ولكن البيئة الباكستانية لا تزال ملائمة لظهور الجماعات الإرهابية، فهناك نفوذ الأحزاب الإسلامية والمؤسسات الدينية وتأثير الشبكات الإرهابية العالمية، وهناك مشكلة كشمير والصراع مع الهند والدعم المالي الخارجي واستمرار المشكلة الأفغانية وتهديد جماعات "طالبان". ويحق لنا ختاماً أن نثير هنا نفس السؤال الذي طرحناه مراراً في العالم العربي: لماذا لا يصل المد التحديثي الصناعي التنموي، الكوري الياباني، إلى باكستان ومجتمعات العالم الإسلامي؟