"حرب ذاكرة" في باريس و"مهمة مستحيلة" في نيويورك وتحدٍّ مستمر في بيونج يانج! مشروع القانون الفرنسي المثير للجدل حول تجريم كل من يُنكر حصول "إبادة الأرمن"، والمهام الجسيمة التي تنتظر "بان كي مون" في منصبه الأممي الجديد، والرد على الصفعة الكورية الشمالية للمجتمع الدولي، موضوعات ثلاثة نستعرضها في جولة سريعة في الصحافة الفرنسية. "تجريم" إنكار إبادة الأرمن: أثار تمرير البرلمان الفرنسي قانون تجريم كل من يُنكر "إبادة الأرمن"، سنة 1915 على يد الدولة العثمانية، سجالاً إعلامياً ما زال متواصلاً حتى الآن. صحيفة لوموند نشرت افتتاحية بعنوان: "أرمينيا رهينة"، استعرضت فيها أبعاد وأسباب إثارة هذه الضجة الآن، من خلال مشروع القانون المقدم من نائب اشتراكي لاستكمال قانون آخر صدر 29/1/2001 يعترف أساساً بحصول إبادة الأرمن، وهو الآخر نسجٌ على "قانون غايسو" المتعلق بتجريم إنكار الهولوكوست. ولكن هذا القانون الجديد يثير مشكلتين كبيرتين، الأولى مع التاريخ، والثانية مع تركيا. ففي الأولى ما زال العالم أجمع يتذكر السجال المحتدم حول "تمجيد الدور الإيجابي" للاستعمار، والطريقة التي احتجت بها دول متوسطية على ذلك، وقد قال الرئيس شيراك يومها بوضوح: "إن كتابة التاريخ ليست مهمة رجال التشريع والقانون" واتفق الجميع على أن الجمعية الوطنية ليست "وزارة حقيقة" فيما يتعلق بالتاريخ. وفي الثانية يخلق هذا القانون حالة من الاشتباك غير البنَّاء مع تركيا التي تقرع أبواب الاتحاد الأوروبي، ويضعف موقف القوى النقدية داخل تركيا التي تحدث بعضها عن تلك الإبادة وكسر "التابو" المتعلق بها. وختمت لوموند بالإشارة إلى أن أبرز مرشحين لرئاسيات العام المقبل وهما نيكولا ساركوزي رئيس الحزب الحاكم، وسيغولين رويال زعيمة الحزب الاشتراكي، يؤيدان هذا القانون بقوة، لعباً منهما على أوتار اللوبي الأرمني الفرنسي القوي للغاية. والأخطر في الموقف هنا هو أن تتحول "القضية الأرمنية" تلك إلى رهينة ضمن التجاذب الحزبي، تقول الصحيفة. وفي صحيفة لوفيغارو كتب فرانسوا تيريه مقالاً تحدث فيه عن المخاطر السياسية والتشريعية المترتبة على هذا القانون، مؤكداً أن القانون الجنائي الفرنسي يُجرِّم عموماً على ما بين 8 آلاف و9 آلاف عمل ممنوع، ولذلك لا تنقص الفرنسيين أبداً تشريعات جديدة في مجال التجريم، كما أن فرنسا نفسها ليست في وضع يسمح لها بإعطاء دروس أخلاقية للدول الأخرى في هذا المجال، خاصة أن ماضيها هي الاستعماري ينتظر الإدانة على الطرف الآخر من البحر المتوسط، من خلال "إبادة الجزائريين". وهو نفس الطرح الذي نجده أيضاً عند رئيس مجموعة الحزب الحاكم في الجمعية الوطنية برنار آكوييه الذي كتب مقالاً في لوفيغارو بعنوان: "إبادة الأرمن: لا تشعلوا حروب الذاكرات". أما في مجلة الأكسبريس فقد كتبت آليس بويا تغطية استعرضت فيها ردود الفعل القوية على القانون في تركيا نفسها، وأيضاً من قبل الاتحاد الأوروبي. كما كتب "أولي ريهن" المفوض الأوروبي المكلف بالتوسيع، مقالاً في صحيفة ليبراسيون بعنوان: "لا تقتلوا الحوار مع تركيا"، أكد فيه أن القانون الفرنسي الجديد يلحق ضرراً بالغاً بالمفاوضات الأوروبية التركية، ويرسل رسائل غير إيجابية تجاهها، مطالباً بعدم هدر الفرص المعلقة على المحادثات بين أنقرة وبروكسل مستقبلاً. مهمة بان كي مون المستحيلة: صحيفة لوموند نشرت افتتاحية بمناسبة انتخاب الكوري الجنوبي "بان كي مون" أميناً عاماً للأمم المتحدة خلفاً لكوفي عنان، تحدثت فيها عن المهام الجسام التي تنتظر الدبلوماسي القادم الجديد إلى المشهد الدولي، معيدة التذكير بمقولة أول سكرتير عام للأمم المتحدة النرويجي "تريجفي لي" بأن هذه الوظيفة "هي الأصعب على وجه الأرض". ووصول هذا الدبلوماسي الكوري المخضرم إلى المنصب الأممي لاشك أنه كان بمباركة من الدول العظمى وخاصة أميركا التي ترى فيه موظفاً تنفيذياً وغير هجومي. ولكنَّ من المعروف عنه أيضاً أنه يتبنى مواقف تختلف مع طرح الإدارة الأميركية الحالية، كتأييده بقوة للمحكمة الجنائية الدولية، مثلما أنه كان من دعاة بل من صُناع الانفتاح على كوريا الشمالية. وتصف الافتتاحية السيد "مون" بأنه مفاوض مُجرَّب وحازم ولكنه كتوم، وهي كلها مؤهلات ضرورية في من يؤدي وظيفة وصفها سلفه بأنها مستحيلة الاكتمال كمهمة "سيزيف" في الأسطورة اليونانية. وفي وداع عنان تقول الصحيفة إنه على رغم ما تخلل فترتي مأموريته من مصاعب وإخفاقات، وعلى رغم ما لحق بسمعته الشخصية من ضرر بعد اندلاع حرب العراق دون أن تكون للمنظمة الدولية فيها كلمة، وبعد فضيحة "النفط مقابل الغذاء"، إلا أن الدبلوماسي الغاني مع ذلك ترك بصماته بقوة على المنصب الأممي الذي يغادره آخر هذا العام. أما خلفه الكوري فإن الملفات التي تنتظر لمساته أكثر ازدحاماً مما يمكن تخيله، وفي مقدمتها ملفات لبنان، والشرق الأوسط، وإيران، وكوريا الشمالية، إلخ. كما أصبحت الأمم المتحدة مرتهنة أيضاً بأعباء كبيرة في مقدمتها توفير جميع الالتزامات تجاه القوات الدولية المكلفة أممياً بمهمات، وقد قفز عددها خلال 10 سنوات فقط من 20 ألفاً إلى 100 ألف جندي الآن. كيم يونج إيل... وسياسة حافة الهاوية: في صحيفة لوفيغارو نقرأ مقالاً تحليلياً حول تفجير كوريا الشمالية النووي، والمقال لفرانسوا جيريه، رئيس المعهد الفرنسي للتحليلات الاستراتيجية، ومؤلف كتاب: "إيران النووية... التحول الفارسي". ويرى "جيريه" أن أية محاولة للتقليل من خطورة تفجير كوريا الشمالية ستكون غير مجدية وخطيرة في الوقت نفسه. غير مجدية لأن التفجير رُصد بمعدل 4 درجات على مقياس ريختر. وخطيرة لأن أي تقليل من حجم التجربة قد تأخذه بيونج يانج كذريعة جديدة لتكرار التجربة. ومع أن جهاز تفجير تجريبياً ليس بالضرورة سلاحاً ميدايناً فعالاً، إلا أن مجرد ذكر التجربة كان كافياً لإرعاب سكان سيئول التي لا تبعد عن خط التقسيم سوى 80 كلم فقط. أما فيما يخص توقيت إعلان التجربة ذاته فقد كان محسوباً بعناية شديدة في تحدٍّ للمجتمع الدولي كله، ومجلس الأمن في مقدمته، ففي نفس الوقت كان رئيس وزراء اليابان الجديد "شينزو آبي" يقوم بجولة في المنطقة، وتم اختيار "بان كي مون" أميناً عاماً للأمم المتحدة، وتم التوافق مبدئياً على معاقبة إيران، كما أصبحت انتخابات تجديد الكونجرس الأميركي على الأبواب. ويرى الكاتب أن كل هذه التضاريس المعقدة من الأحداث والمواقف هي التي تضفي على الخطوة الكورية الشمالية أهمية بالغة، استدعت كل هذا الاستنفار والتوافق الدوليين على معاقبتها. أما ماذا تريد بيونج يانج من تصعيد سياسة حافة الهاوية هذه فهو شيء واحد حسب الكاتب، وهو ضمان بقاء النظام. وينصح "جيريه" الدول الغربية، في النهاية بضرورة التفاوض مع كوريا الشمالية، فالتوصل إلى حل تفاوضي ليس ضعفاً بأي وجه، كما أن أي خيار آخر لم يعد مجدياً ولا مضمون العواقب مع دولة أعلنت أنها امتلكت أسلحة نووية، وتكلفة الخيار العسكري معها مكلفة جداً ولا داعي لها أساساً. إعداد: حسن ولد المختار