منذ اللحظة التي بدأت فيها حرب العراق كانت معاناة الشعب العراقي وعدد خسائره البشرية محلاً لجدل محتدم حيث سعى كل من الفريقين سواء المناصر للحرب أو المناوئ لها لتسجيل نقاط معنوية ضد الفريق الآخر يدعم بها موقفه. لذلك لم يكن مستغرباً أن يثير الرقم الذي نشرته مجلة "لانست" البريطانية الطبية عن عدد الخسائر البشرية العراقية هذا الأسبوع مزيداً من الجدل حول هذا الموضوع. وهذا الرقم الذي يقدر أن الخسائر البشرية العراقية قد وصلت إلى 601,000 عراقي يزيد عشر مرات عن التقديرات السابقة، وهو ما دعا الرئيس بوش إلى أن يعلق عليه باقتضاب عقب إعلانه بالقول إنه "رقم غير موثوق به"، كما دعا متحدث باسم الحكومة العراقية إلى القول بأنه "يفوق الحقيقة بصورة غير معقولة". والسؤال هنا: ما هو السبب الذي يجعل من تحديد العدد الدقيق للخسائر البشرية العراقية أمراً على قدر كبير من الصعوبة؟ الإجابة المباشرة هي أن العراق قد غدا مكاناً غاية في الخطورة بحيث يصعب على الباحثين ومسؤولي الإحصاء الرسمين الانتقال من مكان لآخر لتحديد الأرقام بدقة، وهو ما يعني أن هؤلاء لا يجدون أمامهم من أسلوب آخر سوى الاعتماد على شهادات الوفاة التي صدرت في السنوات الثلاث السابقة على الحرب والسنوات الثلاث، التي مضت منذ أن بدأت. ولكن المشكلة بالنسبة لحالة العراق هي أن الباحثين اكتشفوا أنه لا توجد آلية مركزية للإبلاغ عن الخسائر، مما جعلهم يلجأون -مدعومين في ذلك بواسطة مدرسة بلومبيرج للصحة العامة- إلى الاعتماد على نفس الوسيلة المتبعة في عد الأصوات في حالات قياس تفضيلات الناخبين أو تفضيلات المشاهدين بالنسبة للبرامج المختلفة. حول هذه النقطة يقول البروفيسور "ريتشارد جارفيلد" أستاذ الصحة العامة بجامعة كولومبيا والذي يتعاون بشكل وثيق مع عدد من المؤلفين لهذا التقرير: "إن وصف الرئيس بوش للمنهج المستخدم في إحصاء الخسائر بأنه خطأ، هو وصف غير دقيق، فالواقع أنه ليس هناك ما يعيب ذلك الأسلوب وليس هناك في نظري أسلوب أفضل في الظروف الحالية التي يمر بها العراق يمكن استخدامه لإحصاء عدد القتلى". ويوضح الدكتور "جيلبيرت بيرنهام" المؤلف الرئيسي للتقرير المسألة بشكل أكثر بقوله إن: "هناك عدة وسائل يمكن استخدامها في إحصاء عدد القتلى إحداها تلك التي تعتمد على إحصاء الجثث التي تصل إلى المشرحة أو إحصائها حسب تقارير الشرطة أو تقارير الصحف ثم القيام بعد ذلك بجمعها إلى التقارير المماثلة التي ترد من مختلف مناطق العراق للوصول في النهاية إلى العدد الإجمالي لأعداد القتلى". يُشار إلى أن البحث الذي تم إجراؤه قد اعتمد على أسئلة وجهها الباحثون العراقيون إلى أعضاء 2000 أسرة عراقية، تم اختيارها بشكل عشوائي من مناطق جغرافية مختلفة بحيث تعكس التركيبة السكانية للعراق. واستنبط الباحثون من خلال تلك الأرقام أن متوسط الخسائر لكل ألف من السكان كان 5.5 قبل الغزو وأن هذا الرقم قد ارتفع إلى 13.5 في المتوسط بعد الاحتلال الأميركي للعراق. وهذا في النهاية هو الذي أدى إلى التوصل إلى رقم 601,000 المتعلق بعدد العراقيين الذين قتلوا منذ الغزو بالإضافة إلى 54 ألفاً ماتوا لأسباب طبيعية ربما تكون لها علاقة بتدهور مستوى الرعاية الصحية في البلاد. ويقول الدكتور "بيرنهام" إنه وفريقه كانوا مدركين أن هناك احتمالاً لحدوث فروقات في العد إذا لم يتم تصميم المسح بطريقة سليمة، وأن هناك احتمالاً آخر وهو ألا يقوم الناس بالإبلاغ عن حالات وفاة لم تحدث وهذا هو الذي دعانا إلى المطالبة بتقديم شهادات الوفاة وقد حصلنا عليها في 92 من الحالات. ولزيادة التأكيد يقول الباحثون الذين شاركوا في إعداد هذا المسح إن الزيادة في أعداد القتلى تتراوح ما بين الحد الأدنى لعدد الخسائر الذي توصلوا إليه وهو 392,979 والحد الأعلى وهو 942,636 وأن العدد الذي توصلوا إليه هو 601,000 يمثل المتوسط بين الرقمين. والأرقام المقبولة من كافة الأطراف تقل كثيراً عن الرقم الذي توصل إليه مسح "لانست" فما يعرف باسم "مؤشر العراق" الذي يرعاه معهد "بروكنجز"، أحصى 61,000 قتيل مدني، في حين أن الرئيس بوش قال إن العدد هو 30,000 مدني العام الماضي. وقد اتهم بعض النقاد الباحثين الذين أعدوا هذا التقرير بأنهم كانوا مدفوعين بدوافع سياسية، وأن نشره في هذا التوقيت قد قصد به أن يأتي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي ستعقد عما قريب. ولكن الدكتور "بيرنهام" يقول إن هدفه كان أن ينتهي من التقرير ويقوم بنشره "في شهر أغسطس الماضي حتى لا يقول أحد إنه مرتبط بالانتخابات الأميركية، ولكن مسائل متعلقة بالتدقيق بالإضافة إلى بعض المسائل الإدارية عطلت نشر التقرير في الموعد المحدد". ويعلق الدكتور "جارفيلد" بدوره على ذلك بالقول: "إن من يتهمون الباحثين بأنهم كانوا مدفوعين سياسياً في إعدادهم لهذا التقرير يضفون عليهم قدرات تآمرية تفوق بكثير قدراتهم الحقيقية... وفي ظني أننا لو قمنا بنشر التقرير قبل ستة شهور من موعده لكنا وجدنا من يتهمنا بشيء معين وهو ما يرجع في رأيي إلى أن التقرير يقدم حقيقة غير مريحة، وليس من الحقائق المريحة بالتأكيد أن نعرف أن عدد من ماتوا في العراق يبلغ 2,6 في المئة من عدد السكان، في حين أن عدد من ماتوا في حربنا الأهلية لم يزد على 1,4 في المئة، مما يعني أن كل عائلة عراقية تقريباً قد تأثرت بشكل أو بآخر". دان مورفي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل الشؤون الخارجية- كريستيان ساينس مونيتور ينشر بترتيب خاص مع "خدمة كريستيان ساينس مونيتور"