مازال الإطار الدولي القائم على مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات الرامية إلى الحد من الانتشار النووي مستمراً على قيد الحياة، رغم الظروف الصعبة التي تمر بها هذه الاتفاقيات ومحاولات بعض الدول التنصل منها. ولعل إقدام كوريا الشمالية على إجراء تجربة نووية خلال الأسبوع المنصرم أوضح مثال على المشكلات المتعددة التي بات يواجهها النظام الدولي لمنع الانتشار النووي. وهو النظام الذي استمر بفعالية طيلة الأربعين سنة الأخيرة التي أعقبت بروز العصر الذري. ويبقى التحدي اليوم في حشد القوى العالمية لتأسيس تحالف قوي يمنع انتشار الأسلحة النووية ويكون بمقدوره إرغام دول مثل إيران وكوريا الشمالية على الامتثال للقرارات الدولية ولجم طموحاتها النووية. وبالطبع لن تنجح تلك المساعي ما لم تنخرط الدول الكبرى مثل الصين وروسيا وتكف عن تغليب مصالحها الاقتصادية على الانشغالات الأمنية التي تهدد السلم العالمي. "جورج بيركوفيتش" الخبير في عدم الانتشار النووي بـ"منحة كارنيجي للسلام الدولي" بواشنطن يرى أن على إيران أن تدرك أننا مستعدون للدخول في مغامرة للحد من انتشار السلاح النووي إن اقتضى الأمر. وهنا تبرز معاهدة عدم الانتشار النووي التي بدأ العمل بها بتاريخ 1 يوليو 1968 في نيويورك باعتبارها الإطار الدولي القادر على مراقبة الانتشار النووي وضبط الأنشطة المرتبطة به في العالم. ولتعزيز فاعليتها أضيفت إليها اتفاقيات أخرى مثل اتفاقية مجموعة الدول المزودة للمواد النووية، فضلاً عن الاتفاقيات الثنائية بين الدول المختلفة التي تنظم العلاقات في المجال النووي. لكن ورغم الجهود الدولية الرامية إلى إبعاد الخطر النووي عن العالم، تمكنت بعض الدول من امتلاك السلاح النووي، أو على الأقل السعي إلى حيازته. وفي هذا الصدد، تعتبر كوريا الشمالية أول دولة تنسحب من معاهدة الانتشار النووي، إضافة إلى أنها نكثت بتعهدها عام 1992 لكوريا الجنوبية بأن تكون شبه جزيرة كوريا خالية من الأسلحة النووية وانسحبت كذلك من (اتفاقية الإطار) التي وقعتها مع كلينتون. ومن خلال هذا الوضع أصبحت كوريا الشمالية الآن غير خاضعة لأية قيود قانونية ودولية في نشاطاتها النووية. ومن الملاحظ أن إدارة بوش نادراً ما تعرب عن القلق من مضاعفات انسحاب بيونج يانج على مصداقية المعاهدة. ولاشك أن كوريا الشمالية لها كامل الحقوق القانونية الدولية بالانسحاب من هذه المعاهدة التي تنص على حق كل عضو بالانسحاب منها بعد إشعار تقدمه الدولة العضو قبل تسعين يوماً من الموعد المقرر بحجة حدوث تطورات تعرض مصالحها العليا للخطر. ومع ذلك، رفض عدد من الدول الأعضاء في المعاهدة إقرار الاعتراف بانسحاب كوريا الشمالية، ولذلك تجاوزت اجتماعات الدول الأعضاء موضوع انسحابها بانتظار نتائج مفاوضات الدول الست التي تتولى حل المشكلة النووية التي خلقتها كوريا الشمالية على الساحة الدولية والآسيوية بشكل خاص. وبما أن المغزى الذي يحمله الانسحاب من المعاهدة سياسي ورمزي جداً، فربما يؤدي عدم تراجعها عنه إلى خلق سابقة تتسبب بتدهور وتآكل المعايير التي تستند إليها المعاهدة حالياً، وإذا ما تعرضت دول أعضاء أخرى غير نووية إلى وضع مشابه لوضع كوريا الشمالية، فمن الممكن أن تقودها هذه السابقة وحساباتها إلى إمكانية الانسحاب من المعاهدة من دون أن يلحق بها أي ضرر. ولاشك أن إيران في رأس قائمة الدول التي تهتم بهذه السابقة الكورية الشمالية رغم أنها من غير المحتمل أن تلجأ إلى الطريقة نفسها. يشار إلى أن الطموح النووي لكوريا الشمالية الذي تكلل أخيراً بإجراء تجربتها النووية الأولى بدأ يولد أخطاراً إقليمية واضحة ومحسوسة يرافقها القلق، ولاشك أن نمو الترسانة النووية الكورية الشمالية بشكل متواصل أو بطيء سيفاقم الأخطار والتوترات. وإذا ما أطلقت عملية امتلاك بيونج يانج للأسلحة النووية محاولات من دول أخرى لتحقيق الغاية نفسها في آسيا الشرقية، فإن صلاحية ومصداقية معاهدة حظر انتشار السلاح النووي ستتعرض للاهتزاز ويتهدد وجودها. ولعل أكثر ما يثير القلق هو أن تندفع اليابان بعد ذلك إلى امتلاك سلاح نووي، فاليابان لديها برنامج نووي مسالم قادر على تخصيب البلوتونيوم يوفر لها الانتقال بسرعة إلى تطوير أسلحة نووية إذا ما رغبت. والحقيقة هي أن اليابان تتضاءل احتمالات توجهها نحو صناعة القنبلة النووية بخلاف الآراء التي تؤكد هذه الرغبة. وعلى الرغم من أن اليابان تعتبر وجود أسلحة نووية كورية شمالية خطراً عليها، إلا أنه ليس من الواضح من ناحية استراتيجية كيف ستتمكن القدرة النووية اليابانية من مجابهة هذا الخطر. فطالما تتمتع اليابان بحماية المظلة النووية الأميركية وضماناتها، فإن أي قدرة نووية إضافية يابانية لن تزيد كثيراً في ردع بيونج يانج عن مهاجمة اليابان بالسلاح النووي. وإلى جانب ذلك، يمكن الاستنتاج بأن امتلاك اليابان للسلاح النووي سيؤدي إلى زيادة حوافز بيونج يانج على خلق ترسانة نووية وخلق صعوبات هائلة أمام عدم انتشار السلاح النووي، وإلى تفاقم العلاقات السيئة بين اليابان وكوريا الجنوبية، والصين والدول الأخرى التي لم تنس ما فعلته اليابان في الحرب العالمية الثانية. وهذا المنطق الواضح يراه كثير من الاستراتيجيين اليابانيين. وإذا انتقلنا إلى كوريا الجنوبية وتايوان، سنجد أن البرامج النووية فيهما أقل تقدماً مما هي الحال في اليابان رغم أن سيئول وتايبيه أشارتا إلى طموحات في الماضي لامتلاك السلاح النووي وربما تتعزز حوافزها نحو هذا الهدف أكثر من اليابان من أجل الرد على كوريا الشمالية. وهكذا تتضح ضرورة قيام تحالف دولي تشارك فيه القوى الدولية المؤثرة مثل الصين وروسيا يمارس ضغوطاً حقيقية على الدول ذات التطلعات النووية من أجل عالم أكثر أمناً وسلاماً. بيتر جراير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرر الشؤون الخارجية في "كريستيان ساينس مونيتور" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"