مون: قمة الدبلوماسية العالمية... لصانع التسويات! في وقت يشتد فيه الجدل داخل هيئة الأمم المتحدة، لاسيما في منظمتها الفرعية مجلس الأمن الدولي، حول ثلاثة ملفات تتعلق بكل من إيران والسودان وكوريا الشمالية، سيدخل إلى المبنى الزجاجي للمنظمة الدولية في نيويورك زائر جديد هو أمينها العام المنتخب "بان كي مون" الذي يعلق عليه كثيرون في الدول النامية، أملهم في إطلاق مرحلة جديدة من تاريخ الأمم المتحدة، يطبعها الحياد والنزاهة واحترام القانون الدولي. وقد تزامن التصويت الأخير الذي أجرته الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم أمس الجمعة، على "مون" كأمين عام للمنظمة، مع تصعيد حاد في شبه الجزيرة الكورية، بما تجره وراءها من ظلال وأثقال تمتد إلى عصر الحرب الباردة! من تلك المنطقة المرتهنة لحالة انقسامها ولصراعات السيطرة، يأتي بان كي مون من كوريا الجنوبية، من عاصمتها سيئول حيث ولد عام 1944 ثم درس ليتخرج من جامعتها الوطنية بشهادة في العلوم السياسية... سيتسلم منصبه على رأس المنظمة الدولية، مسلحاً بخبرة عمرها 36 عاماً من العمل الدبلوماسي، تخللتها مهمات مرتبطة بالأمم المتحدة، وعلى تماس مع معضلات عويصة في السياسة الدولية. بعد تخرجه من الجامعة، بدأ مون مسيرته الدبلوماسية بالعمل في سفارة بلاده بنيودلهي عام 1970، ثم نقل منها إلى منصب السكرتير الأول لبعثة كوريا الجنوبية في الأمم المتحدة بنيويورك، وإبان رئاسة بلاده الدورة الـ56 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2001، تولى مهام رئيس معاوني رئيس الجمعية. وقد شغل مون مناصب دبلوماسية وسياسية رفيعة في بلاده، ففي عام 1995 عين نائباً لوزير الخارجية، وفي العام التالي مستشاراً رئاسياً لشؤون الأمن الوطني، ثم سفيراً في النمسا عام 1999، قبل اختياره في يناير 2004 وزيراً للخارجية، وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى الآن، وذلك في فترة شهدت أوج التوتر بين الكوريتين. وخلال ذلك شارك في المحادثات السداسية الرامية إلى إقناع كوريا الشمالية بالتخلي عن برنامجها النووي، تاركاً الانطباع عن شخصيته كـ"وسيط جيد، وبارع في وضع التسويات وتحقيق التوافق"، وبأن الرجل "الهادئ والعنيد" والذي يملك تصميما كبيراً، هو أشبه بـ"قبضة حديدية في قفاز من حرير"! ولعل المظهر الهادئ لمون، قد حمل كثيرين على النظر إليه كشخص ليِّن وبسيط ومتواضع أكثر من اللازم، لكنه يعلق على تلك النظرة بقوله "إنني أملك قوة فطرية، وهذا أمر طبيعي لا يلاحظه الناس من الخارج"! خلال تدرجه في محطات العمل الدبلوماسي، كرس مون نفسه، ليس كمتحدث بارع أو خطيب مفوه، وإنما كلاعب جيد خلف الأبواب المغلقة وكدبلوماسي محنك وبيروقراطي جاد في تحقيق ما يقتنع به من أفكار، لذلك فهو صانع تسويات ومهندس لما وراء الكواليس بامتياز. وبذلك يكون مجلس الأمن قد فضل الكفاءة على الكاريزما، والأداء على الوعد، لاسيما أن ثلاثة من أعضائه الدائمين (الصين وروسيا والولايات المتحدة)، إضافة إلى اليابان، كانوا شركاء لمون في المحادثات السداسية حيث أثبت كفاءته الدبلوماسية الفائقة. هكذا حصل مون على الدعم الكامل من مجلس الأمن، لكن ميثاق الأمم المتحدة ينص على أن ينتخب الأمين العام للمنظمة من قبل الجمعية العامة بتوصية من المجلس، والذي أوصى يوم الاثنين الماضي بانتخاب مون أميناً عاماً من قبل الجمعية. وقد حل مون في المرتبة الأولى خلال مراحل التصويت التجريبي منذ يوليو الماضي، ليبدأ منافسوه الستة بالانسحاب تباعاً من الحلبة، وكان آخرهم الهندي ساشي تارور (مساعد كوفي عنان للاتصال) الذي غادرها إثر تلاشي حظوظه في التصويت التجريبي الرابع داخل مجلس الأمن يوم الثالث من أكتوبر الجاري. وكان أحد المتنافسين الأمير الأردني زيد بن رعد الذي أعلن عنه بوصفه "مرشح الإجماع العربي"، غير أن إعطاء قطر صوتها في مجلس الأمن لصالح مون، أدى إلى نشوب أزمة بين عمّان والدوحة. المتنافسون كانوا جميعاً من آسيا، عملاً بتقليد يقر التناوب على تولي منصب الأمين العام بين المجموعات الجغرافية الرئيسية. وعليه فإن مون سيصبح ثامن شخص يشغل قمة الدبلوماسية العالمية، وثاني أمين عام آسيوي بعد الأمين العام الأسبق يو ثانت، وهو من بورما (ماينمار حالياً)، وقد شغل ذلك المنصب بين عامي 1961 و1971. وإذا كان مون قد اختير بإجماع داخل مجلس الأمن، فهذا يمثل مؤشراً إيجابياً على وجود إرادة دولية داعمة له من جانب ولتفعيل المنظمة من جانب آخر، ربما كي يدفع بإحداث تغيير وتطوير داخل المنظمة، لزيادة فاعليتها في التعاطي مع القضايا الدولية المختلفة. فبسبب نقاط الضعف الكثيرة في أداء المنظمة، خاصة إبان الغزو الأميركي للعراق، وما أعقب ذلك من فضائح في برنامج "النفط مقابل الغذاء"، طرح كوفي عنان (تنتهي ولايته 31 ديسمبر 2006) خطة إصلاحات تقضي بزيادة عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وإعادة النظر في كيفية اللجوء إلى القوة العسكرية، وبتحديد تعريف شامل للإرهاب... لكن القمة العالمية التي عقدت بنيويورك في سبتمبر 2005، بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس الأمم المتحدة، فشلت في التوافق على خطته، كانعكاس لسيطرة الدول الكبرى. وعلى خلفية النفوذ الأميركي في المنظمة، رفض مون بعض الاتهامات القائلة بأن مواقفه القريبة من واشنطن، ستمنعه من إيجاد حلول لأزمات بعينها كتلك المتعلقة بإيران وكوريا الشمالية، قائلاً بأسلوب دبلوماسي جداً، إن الولايات المتحدة دولة عضو مهمة في المنظمة، لكنها بحاجة إلى الأمم المتحدة "لتعزيز مصالحها وقيمها الأممية". وتعود علاقة مون بالولايات المتحدة إلى ثمانينيات القرن الماضي حينما تولى مهام دبلوماسية في سفارة بلاده بواشنطن، وحيث حصل على شهادة الماجستير من معهد كيندي التابع لجامعة هارفارد عام 1985، كما عمل في أول التسعينيات مديراً للشؤون الأميركية بوزارة الخارجية الكورية. فهل سيكتفي بالتصور الأميركي لإصلاح الأمم المتحدة، والذي يتلخص في مجرد التخلص من بعض الوظائف داخل الأمانة العامة؟! على أية حال، لا أحد يتوقع من مون قراراً بإقالة ابنته الكبرى من وظيفتها في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو)، بل إن ذلك قد يكون "كابوساً" مفزعاً لصانع التسويات العويصة! محمد ولد المنى