آخر أخبار الجيش الأميركي والسياسة الأميركية في أفغانستان أن اجتماعاً عقد بين ممثلين عن حركة "طالبان" –الإرهابية والمطلوب استئصالها أميركياً– والجيش الأميركي في ولاية "غزني"، حيث عرض الأميركيون رسمياً على ممثلي الحركة الاحتفاظ بثلاث ولايات في الجنوب مقابل وقف إطلاق النار والموافقة على تسليم السلاح. لكن ممثلي "طالبان" أبدوا في الاجتماع موافقتهم على تسلم السيطرة على الولايات الثلاث الجنوبية في مقابل الالتزام بوقف إطلاق النار من دون تسليم السلاح! هل يعني ذلك نجاحاً جديداً للإدارة الأميركية كما يدعي ويكرر الرئيس الأميركي جورج بوش؟ وهل الديمقراطية الناشئة والحقيقية التي يتحدث عنها دائماً في أفغانستان هي بالاعتراف من جديد بـ"طالبان" أولاً ثم التسليم بسيطرتها على بعض الولايات والتسليم بتكريس سلطتها نهائياً عليها؟ وهل يعني ذلك تكريساً للأمن والاستقرار على يد "طالبان" بعد أن كانت متهمة بالإرهاب وتهديد الأمن والاستقرار ليس فقط في أفغانستان، بل في العالم؟ وهل يؤدي ذلك إلى حماية الأمن الأميركي والرئيس بوش وجماعته كانوا يكررون دائماً أنه بعد الحرب على أفغانستان ثم الحرب على العراق أصبح الوضع الأمني في أميركا، وفي العالم عموماً أكثر استقراراً؟ وهل يتم تكريس هذه النظرية –البعيدة عن الواقع– بتسليم "طالبان" ولايات في أفغانستان لتديرها وتحمي أمنها واستقرارها؟ إنها قمة الفشل الأميركي. والخطر الأميركي على العالم، كما هو على الشعب الأميركي؛ فبعد تدمير قرى في باكستان تحت ذريعة مفادها أن الظواهري، مساعد بن لادن كان فيها، وقتل عدد من المدنيين الأبرياء ليظهر الظواهري على محطات التلفزة يهدد أميركا وأمنها والمتعاملين معها، وليظهر في الوقت ذاته حديث إلى العلن عن فشل المخابرات الأميركية، وبعد سلسلة من المواجهات بين "طالبان" والقوات الأميركية ومقتل عدد من الجنود الأميركيين، ومواجهات مع قوات الأطلسي ومقتل عدد من جنودها إضافة إلى عدد من الصحافيين الأجانب، وتفجير سيارات مفخخة وتنفيذ عمليات انتحارية ضد تجمعات عسكرية أفغانية أو قوافل عسكرية أميركية وغيرها، ظهر الوضع على حقيقته على الأرض. فوضى وفلتان وعدم استقرار وتقدم لـ"طالبان" وتراجع لقوات الأطلسي والقوات الأميركية وتجارة أفيون مستمرة وتهريب إلى هنا وهناك ولا ديمقراطية ولا ديمقراطيون ولا من يحزنون! هذه هي النتيجة الحقيقية للحرب على أفغانستان. هذه هي نتيجة الغطرسة والغرور والتفرد والمكابرة، التي اعترف بها مؤخراً وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، الذي قال في صحيفة "واشنطن بوست": "إن ثمة إخفاقات في إرساء الديمقراطية في أفغانستان. والعنف يتصاعد في الجنوب. وكل الأخبار من هناك غير مشجعة"! أما في العراق فالوضع ليس بحال أفضل على الإطلاق. إخفاقات متتالية وفشل مخابراتي وأمني وسياسي وإداري واستراتيجي وهروب إلى الأمام وخسائر بشرية كبيرة أما الخسائر المعنوية فحدِّث ولا حرج: صدقية ساقطة، ووضع محرج، وهيبة غير موجودة، وخوف على مصير الجنود، ومحاولة خروج من المأزق بحرب أهلية مدمرة تفتيتية ونتائج سلبية، واهتزاز في العلاقات مع أقرب الدول إلى الولايات المتحدة في المنطقة، وتنامي ظاهرة الإرهاب والعنف والقتل أكثر من أي وقت مضى. كنا عندما نقول ذلك منذ ثلاث سنوات نتهم من الأميركيين بأننا خصوم أو أعداء، أو نبالغ وتشن علينا الحملات. فإذا استخدمنا كلمة غطرسة وعجرفة وتفرد قامت القيامة. اليوم، السفير الأميركي زلماي خليل زاد في العراق يقول بوضوح: "بعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على إطاحة نظام صدام حسين ارتكبنا أخطاء في عملية إعادة إعمار العراق. لقد تصرف مسؤولون أميركيون بطريقة متعجرفة ولم يستمعوا إلى نصائح قادة محليين"! أما الصحافي الأميركي "بوب وودوورد"، فقد نشر كتاباً مهماً خلال الأيام الماضية تحت عنوان "حالة نكران"، خصص فيه عناوين للحديث عن "الغطرسـة" و"الإخفاق"! وتحدث عن التضليل الذي استمر يمارسه الرئيس الأميركي للإيحاء للأميركيين بأن العراق عبر نقطة مفصلية ضد الإرهاب والعنف. وهي صورة تناقض بشكل واضح التقارير التي يتلقاها من العراق. ويشير إلى هوس نائب الرئيس ديك تشيني الذي طلب إلى أحد مساعديه، "إيقاظ رئيس فريق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل "دافيد كاي" في الساعة الثالثة فجراً للاستفسار عن صحة تقرير استخباراتي حول نقل أسلحة كيماوية عراقية إلى مواقع داخل سوريا. وإلى سهل البقاع اللبناني"... وكان "كاي" يتساءل: لبنان؟ ويشير إلى هوس الوزير رامسفيلد الذي وصلت "غطرسته" إلى رفض الرد على مكالمات السيدة رايس مستشارة الأمن القومي آنذاك ... ونقل وودوورد عن "برنت سكوكروفت" مستشار الأمن القومي الأسبق أيضاً: "ديك تشيني أسوأ مسؤول في إدارة بوش. و"هادلي" الذي جلبه "سكوكروفت" إلى مجلس الأمن القومي ضعيف وغير قادر على الوقوف في وجه "تشيني" أو "رايس" وقطعاً ليس في وجه رامسفيلد"! وثمة فصول كثيرة في الكتاب عن أسرار ومعلومات تؤكد كلها الفشل الذريع والمأزق الذي وصلت إليه الإدارة الأميركية في العراق حتى الآن. في فلسطين فشل أميركي ذريع، وصورة أميركا سوداء بانحياز إدارتها الكامل لإسرائيل، وتبديد عملية السلام، الأمر الذي دفع العرب مجتمعين إلى رفع الصوت محذرين من خطر هذه السياسة. أما في الحرب على لبنان، فقد كانت أميركا شريكة إسرائيل وكان الفشل حليفهما وانعكاسات الحرب على الداخل الإسرائيلي خطيرة والكل يتحدث اليوم عن أن السلام هو المخرج الوحيد لكن بعض الإسرائيليين يرفضون ذلك والإدارة الأميركية تقف إلى جانبهم. وهذه السياسة لا يمكن أن تنتج إلا الفشل والكراهية والحقد والعنف وحتى الإرهاب، فهل هذا ما تريده أميركا؟ وهل هكذا تنجح تجاربها الديمقراطية في المنطقة؟ ويبنى شرقها الأوسط الكبير؟ كل هذه السياسة تقوي الذين تدعي الإدارة الأميركية أنها تقاومهم لأنهم لا يريدون الديمقراطية. الادعاء خاطئ. وسياستها خاطئة. وإذا كان جانب من هذا الادعاء صحيحاً في بعض الحالات فإن مقاربته ومواجهته خاطئة والنتيجة واحدة!