انشغل الرأي العام في مصر أخيراً بحق مصر في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية. وهو حق طبيعي لا ينازع فيه أحد من الدول الكبرى أو الصغرى. وتمارسه مصر فعلياً منذ بداية الثورة وإقامة مفاعل أنشاص، واستعمال الطاقة النووية في البحوث الطبية والزراعية، واستكشاف التربة. فالطاقة النووية ليست بالضرورة السلاح النووي الذي يتطلب بحوثاً أكبر، وإمكانيات أعظم، وظروفاً دولية مواتية، وحاجة فعلية للدفاع عن النفس. ليست القضية قدرات مصر العلمية فهذه لاشك فيها. فقد كان لديها برنامج توقف منذ أوائل الثمانينيات بعد كامب ديفيد في 1978، واتفاقية السلام في 1979. فلم تعد مصر تشعر بخطر عليها من السلاح النووي الإسرائيلي ومفاعل ديمونة على مقربة منها في صحراء النقب، الامتداد الطبيعي لسيناء. وعلماء مصر ذوو شهرة عالمية، سواء من بقي في الداخل أو من هاجر إلى الخارج. ويكفي ذكر اسم يحيى المشد عالم الذرة المصري الذي اغتالته إسرائيل في غرفة نومه، وهو يساعد في إنشاء البرنامج النووي العراقي. ليست القضية تقنية خالصة، فالتقنيات النووية معروفة في مراكز الأبحاث المتخصصة تحت طلب من يريد. وهي ليست قضية موازين دولية بين الشرق والغرب، بين روسيا وأميركا أو بين الشرق والشرق: الصين أو اليابان أو الهند أو باكستان، أو بين الغرب والغرب: أميركا أو أوروبا. فقد انتهى عصر الاستقطاب، والتعاون الدولي من أجل استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية متاح للجميع. والوكالة الدولية للطاقة النووية تقوم بالتنسيق بين الدول والتفتيش على مفاعلاتها لضمان عدم انتشار الأسلحة النووية، وتوقيع الدولة على عدم انتشارها، وهي الاتفاقات التي وقعتها مصر ولم توقعها إسرائيل. وليست القضية الاستعداد لإيجاد بدائل للطاقة نظراً لنفاد البترول في مصر الذي يقدر عمره الآن بعشرين عاماً أو أكثر أو أقل. فهذه قضية عالمية. وأكبر مخزون للنفط مازال في المنطقة العربية. والغاز الطبيعي مخزون لا ينفد، وأبحاث الطاقة الشمسية على أشدها، وتستغل باقتدار في اليابان. وليست القضية أيضاً الحاجة إلى الطاقة النووية لتحلية مياه البحر. فالمياه العذبة متوافرة، والنيل يفيض عاماً وراء عام. ومخزون المياه وراء بحيرة السد فيه أكثر من الحاجة. وما يضيع في البحر في أعالي النيل وفي البحر في مصبه. هذه مشكلة الخليج والسعودية والمناطق الصحراوية الخالية من الأنهار والمياه الطبيعية، الجوفية أو الأرضية. إنما أثيرت القضية أثناء الاجتماع السنوي للحزب الحاكم بعد أن طالت المناقشات دون التوصل إلى نتائج واضحة فيما يتعلق بالمطالب القومية الكبرى التي تحملها المعارضة وبعض الأجنحة الإصلاحية في الحزب الحاكم. لم يتم التوصل إلى الاتفاق بين الجميع حول بعض جوانب إصلاح للدستور، وتداول السلطة بالطريقة التي تريدها بعض الأطراف، وتوسيع التعددية الحزبية، وشرعية بعض الأحزاب المتواجدة في الشارع السياسي، والقضاء على الفساد، والحريات العامة، وحقوق الإنسان، والعلاقات العربية، وإعادة دور مصر في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا والسودان. تـُرك ملف مصر مفتوحاً دون الوصول إلى شيء مما تطالب به بعض الأطراف. أُثيرت قضية حق مصر في امتلاك القدرة النووية والذي تملكه بالفعل –يقول البعض- من أجل تلميع الحزب الحاكم، وإثارة الحمية الوطنية، وخلق معركة لا ينازع فيها أحد. فبعض الأحزاب الفاعلة سياسياً في حاجة إلى شرعية وطنية، وحضور جماهيري لا تجده. والبعض الآخر هو الذي يثير القضية حتى يصبح في مكان الصدارة، المدافع عن حقوق مصر الوطنية. ليست القضية إذن موضوعية وفقط، امتلاك مصر القدرة النووية، بل يرى كثيرون أن إثارتها في هذا التوقيت بالذات جاءت للتغطية على بعض التجاذبات المتتالية في السياسة المصرية على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي، يشير البعض إلى مصاعب اقتصادية كغلاء الأسعار، وزيادة معدلات الفقر، وكوارث القطارات والعبَّارات، وسوء الخدمات الصحية والتعليمية في بعض المناطق، وتلاعب بعض المضاربين بالأسعار خاصة الحديد والإسمنت لمزيد من الاحتكار، والاتجاه إلى خصخصة شركات المياه والغاز والكهرباء أي تحويل مصر إلى سوق لرأس المال الداخلي والعالمي، والدخول محلية. وعلى الصعيد الخارجي طرحت موضوعات منها تعرض لبنان للتدمير وحيداً، وترك سوريا الشريك في الحرب والسلام محاصرة بين المطرقة والسندان، والعراق يذبح أبناؤه كل يوم، ومهدد بالتقسيم، والسودان تغزوه القوات الدولية لتقسيمه بدعوى حقوق الإنسان في دارفور وكأنه لا وجود لحقوق الإنسان في فلسطين والعراق، والسودان هو الأمن القومي لمصر. مقابل لا شيء لاسترداد حقوق فلسطين أو لانسحاب قوات الاحتلال من العراق أو بعدم التدخل الخارجي في شؤون السودان. وإذا كان الإعلان عن حق مصر في امتلاك القدرة النووية جاداً فلماذا تعارض الولايات المتحدة امتلاك دول أخرى هذا الحق؟ ولماذا توافق على هذا الحق الفعلي لكل الدول الغربية والشرقية، مثل إسرائيل والهند؟ إن أول من أعلن موافقته على هذا الحق لمصر بعد إعلان الحزب الحاكم عنه هو سفير أميركا في مصر. فربما تمت موافقة أميركا على هذا الإعلان من قبل حتى تظهر أميركا عادلة في مواقفها مع مصر، وإسرائيل، والهند وباكستان. توقيت هذا الإعلان يدل، من وجهة نظر بعض معارضي الحزب الحاكم، على أن القضية في بعض معانيها جاءت لتحقيق إجماع سياسي في البلاد، تغطية على بعض تجاذبات الداخل وضغوط الخارج. والأمور الجادة لا تؤخذ بمثل هذه الطريقة. ومن يريد امتلاك القدرة النووية ليس بالضرورة أن يتباهى بذلك علناً. والكلام عن شيء لا يدل بالضرورة على صنعه. فالكلام أحياناً يكون تعويضاً عن عدم الفاعلية. لذلك وصف أحد المسشترقين العرب ولهذا السبب بأنهم "ظاهرة صوتية". إن الأمور الجادة التي بها يتحدد مصير الأوطان لا تؤخذ وسيلة للدعاية والإعلان وللتغطية على مواقف أخرى. فإسرائيل لا تتحدث عن قدرتها النووية ولا عن سلاحها النووي، ولا عن عدد القنابل النووية التي لديها. ولم توقع على اتفاقية انتشار الأسلحة النووية بالرغم من صياح الغرب ومشاريعهم في جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل، وبالرغم من اتهام العرب الغرب خاصة الولايات المتحدة الأميركية بالمعيار المزدوج في التعامل مع العرب وإسرائيل. ثم خفت الضجة وقد يطويها النسيان مثل كثير من الأمور المثارة في الوطن العربي. هي مجرد أهواء وانفعالات وليست وقائع وحقائق، يقول البعض، مجرد زوبعة في فنجان، (فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).