بينما تواصل الحرب في العراق كشفها عن الأخطاء والهفوات العديدة التي ارتكبتها الإدارة الأميركية، فضلا عن حملتها التضليلية التي انخرطت فيها قبيل الحرب لإقناع الرأي الأميركي والمجتمع الدولي بخطر صدام حسين وضرورة الإطاحة به، ينبري بين الحين والآخر مسؤولون من داخل الإدارة الأميركية ليكشفون الصراعات الداخلية بين أجنحتها المختلفة، وما كان لها من تأثير على القرارات الأساسية التي اتخذتها. لكن تبقى الشخصية الأبرز التي أثار تواجدها إلى جانب زمرة "المحافظين الجدد" استغراباً كبيراً لدى المراقبين، هو وزير الخارجية السابق كولن باول الذي كان مدركاً للصعوبات المحتملة التي ستواجهها الإدارة الأميركية في العراق، سواء تلك المتعلقة بالحرب نفسها، أو بجهود إعادة الإعمار بعدها. لكن في الوقت الذي يؤكد فيه الصحفيون والمراقبون حصافة وزير الخارجية السابق وبعد نظره التي جعلته يتنبأ بالصعوبات المقبلة، بمن فيهم كارين دي يونج، المحررة في صحيفة "واشنطن بوست" ومؤلفة الكتاب الذي نعرضه اليوم، وعنوانه "الجندي: حياة كولن باول"، يتساءل البعض لماذا لم يَرْمِ باول باستقالته في وجه الإدارة التي سعت إلى تهميشه لفترة طويلة، لا سيما عندما أدرك أن صوته لم يعد مسموعاً داخل البيت الأبيض؟ وللإجابة عن هذا السؤال تتوغل المؤلفة في أعماق كولن باول محاولة رسم ملامح شخصيته التي يمكن أن تفسر سبب بقائه في الإدارة الأميركية رغم التهميش الذي طاله. ولا تقف الأسئلة التي تمس كولن باول فقط عند إصراره على عدم الاستقالة، بل تنتقل إلى وضع علامات استفهام حول سبب عدم جهره بمعارضته لسياسات الرئيس بوش ومعاونيه الأقربين ديك تشيني ودونالد رامسفيلد. ولماذا أيضاً لم يسع باول جاهداً لإقناع الرئيس بوش بمبادئه التي أطلقت عليها المؤلفة "عقيدة باول" والقائمة على أن التحرك العسكري، ليكون ناجحا، يجب أن ينبني على قوة عسكرية حاسمة وهدف واضح وتأييد شعبي واسع حتى لا يتم تكرار خطأ فيتنام، وهي العقيدة التي يتم تجاهلها حاليا في العراق. ولتسليط الضوء على الأسباب الكامنة وراء بقاء باول على رأس الدبلوماسية الأميركية رغم مضايقات "المحافظين الجدد"، تطرح المؤلفة مجموعة من الفرضيات في مقدمتها ما أشاعه المقربون من باول نفسه، إذ اعتبروا أن التكوين العسكري لوزير الخارجية كان يمنعه من عصيان أوامر رؤسائه، وكان يحمله على إنجاز المهمات الموكلة إليه حتى ولم يكن موافقا عليها. ويقول رأي آخر بأن كولن باول ترك الإدارة الأميركية تستغل سمعته الجيدة وشعبيته الكاسحة لدى الرأي العام الأميركي، رغم تجاهلها لنصائحه لأنه كان يرفض الاعتراف بالخسارة أمام خصومه في البيت الأبيض. وبالإضافة إلى مسألة أداء الواجب الذي ينظر إليه بعيني الجندي المنضبط والمخلص لقضيته، لم يكن يرغب في الظهور بمظهر المنهزم أمام الآخرين، وهو ما حال دون تقديمه لاستقالته في الوقت الذي كان العديدون يتوقعونها منه بعد ظهور بوادر الخلاف بينه وبين البيت الأبيض حول السياسة الخارجية الأميركية. لكن قبل التطرق إلى الفترة التي قضاها كولن باول على رأس الخارجية الأميركية، والتي خصصت لها المؤلفة القسم الثاني من الكتاب، فقد أفردت القسم الأول للحديث عن حياة باول مركزة على مشواره العسكري المتميز، خاصة دوره في حرب الخليج الأولى (1991) تحت إدارة الرئيس بوش الأب. وهي في ذلك تعتمد على المذكرات التي نشرها باول عام 1995. وقد استقت المؤلفة معلوماتها من خلال الحوارات التي أجرتها مع وزير الخارجية السابق، حيث سعت إلى رسم صورة مغايرة للرواية الرسمية للحظات التي سبقت الحرب على العراق، مستندة إلى رؤية الجنرال باول نفسه. وهنا يبرز الرجل كموظف حكومي يتمتع بكثير من الكفاءة والخبرة، فضلاً عن عما يتميز به من منطق سليم وحنكة سياسية. لكن مسيرته السياسية داخل البيت الأبيض تعرضت لصعوبات كبيرة كادت تطيح بها في أوقات عديدة بسبب موقفه من إصرار صقور الإدارة الأميركية على غزو العراق، وأيضاً بسبب ثقته الزائدة بقدرته على استمالة الرئيس بوش وإقناعه بالتريث قبل اتخاذ قرار الحرب الذي مازالت الإدارة الأميركية تواجه تبعاته إلى غاية اللحظة الراهنة. ويبدو أن كولن باول، كما تصوره المؤلفة، كان على الدوام، سواء قبل هجمات 11 سبتمبر 2001 أو بعدها، رجل التعقل والبرغماتية وسط إدارة يغلب عليها طابع أيديولوجي يسعى إلى تغيير الأنظمة وإحلال الديمقراطية بالقوة. وتشير المؤلفة إلى أن أحد الملامح المميزة في شخصية باول هي طغيان طابع الحذر عليها. وهي ميزة صاحبته منذ أن كان ضابطاً صغيراً في الجيش الأميركي، حيث حصل على علامة متدنية في إحدى المواد لأن رد فعله على المسألة الافتراضية التي طرحت عليه كان متحفظاً. وقد رافقه ذلك التحفظ وظل صفة ملازمة له، كما تقول المؤلفة، إلى غاية تقلده وزارة الخارجية لينعكس بوضوح في اعتراضه على تسرع بوش نحو الحرب على العراق وتفضيله للتريث. غير أن المؤلفة التي خصصت كتابها لتسجيل المراحل المهمة من حياة كولن باول، لم تتردد في تقييم إدارة الرئيس بوش على ضوء تجربة وزيره السابق في الخارجية، لتخرج بخلاصة مهمة تمثلت في ميل الرئيس ومن معه في إدارته إلى نسف القنوات التقليدية في صناعة القرار الأميركي والاستئثار باتخاذ القرارات الاستراتيجية خارجها. زهير الكساب الكتاب: الجندي: حياة كولن باول المؤلفة: كارين دي يونج الناشر: نوف تاريخ النشر: 2006