على السطح تبدو اليابان وكأنها تمر بفترة من فترات الازدهار، كما يبدو أن اقتصادها الذي يعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد اقتصاد الولايات المتحدة، يتعافى في الوقت الراهن بشكل طيب ومطرد بعد فترة الركود والكساد اللذين كادا توديان إلى انهياره في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حين عجزت اليابان عن النهوض إلا بشق الأنفس. هذا هو ما يتراءى على السطح الخارجي، لكن عندما نتجاوز ذلك السطح، ونتعمق قليلا في ظواهر الأمور، فسيتبين لنا أن فقاعة الازدهار تلك تخفي تحتها كارثة اجتماعية كبرى على حد وصف مايكل زايلينزيجر مؤلف كتاب "حجب ضوء الشمس: كيف خلقت اليابان جيلها الضائع؟". هذه الكارثة تكمن في مجموعة من الظواهر الاجتماعية السائدة في الوقت الراهن في هذا البلد والتي دفعت ملايين من الشبان الياباني إلى حبس أنفسهم في غرفهم والانسحاب من المجتمع... كما دفعت أعداداً لا حصر لها من الشابات اليابانيات إلى صرف النظر عن تكوين الأسرة وإنجاب الأطفال، والبقاء في منزل ذويهن لدرجة أن هناك تسمية أصبحت تطلق عليهن وهي "العازبات الطفيليات". يقول المؤلف في هذا الجزء: "رغم أن تلك الشابات أفضل تعليما من أمهاتهن وأنهن يحصلن على أجور من وظائفهن أفضل بكثير مما كانت تحصل عليه أمهاتهن، فإنهن مع ذلك يرفضن السير في طريقهن الطبيعي، مفضلات بدلا من ذلك أن ينفقن الأموال التي يكسبنها على مظاهر الترف والاستمتاع بالسفر والرحلات". والمؤلف يرجع السبب في عزلة الشباب الياباني وانسحابه من المجتمع إلى عدم قدرته على الحصول على فرصته الحقيقية في التعليم، نتيجة تدني أداء المدارس الحكومية، والمصاريف الباهظة التي تفرضها المدارس ومن بعدها الجامعات الخاصة على من يرغب في الالتحاق بها، الأمر الذي يجعلها شبه مقفلة على أبناء النخبة. ويقول أيضاً أن من يتمكن من هؤلاء الشبان من استكمال تعليمه حتى النهاية، فإنه يعجز بعد ذلك عن العثور على الوظيفة المناسبة التي توفر له دخلاً يمكنه من تكوين أسرة، كما كان يفعل أسلافه. ويفاجئنا المؤلف بحقيقة لا يعرفها الكثيرون، فعند الحديث عن أعلى نسبة انتحار في العالم، كانت الأذهان تنصرف على الفور إلى دول اسكندنافيا، وخصوصاً السويد. وكانت الفكرة السائدة أن ذلك يرجع إلى أن نسبة الرخاء هناك هي الأعلى في العالم، وأن مواطني تلك البلدان يحظون بالرعاية الصحية والضمان الاجتماعي الذي توفره حكوماتهم من المهد إلى اللحد، ما يجعل حياتهم تفتقد الصراع والحيوية والرغبة في تحقيق الآمال أو الطموحات التي تضفي على الحياة معناها، ويطبعها بدلا من ذلك بنوع من السأم والملل والرتابة التي تدفع الكثيرين إلى وضع حد لحياتهم. أما أن تكون اليابان هي صاحبة المركز الثاني في نسبة الانتحار بين دول العالم الصناعي، فذلك هو أمر يبعث على الدهشة! واليابان كما يقول المؤلف تعتبر الدولة صاحبة أقل نسبة زيادة في المواليد في دول العالم الصناعي، وهو ما يرجع أساساً إلى إحجام كثير من الشبان والشابات عن تكوين أسرة. وبعد أن يسرد الكتاب عدداً من المشكلات الاجتماعية التي تعانيها اليابان وتأثيراتها، يقول إن الكثير منها يتعلق بنمط الثقافة اليابانية ذات التقاليد الصارمة، والتي تميل إلى الثبات، وتنفر من التغيير، ولا تحبذ الفردية، ولا التعبير الحر عن النفس، وأن كل ذلك يؤدي إلى مشكلات نفسية، كما يخنق التطور الاجتماعي، ويؤخر التعافي الاقتصادي، والإصلاح السياسي... وإن كانت اليابان ليست وحدها في ذلك وإنما هناك الكثير من الدول التي تؤثر ثقافتها الخاصة وتؤدي إلى نشوء ظواهر مشابهة. ويحاول الكاتب إضفاء لمسة إنسانية على أمراض اليابان، قائلاً إن تلك القيود والمحددات قد دفعت الكثير من الشباب الياباني الذكي والخلاق إلى التحول نحو نمط جديد من النسك يسميه "نساك العصر الحديث"، فهؤلاء يتفقون مع نساك العصور السابقة في حب العزلة والانسحاب والبعد عن الاختلاط مع البشر ولكنهم يختلفون عنهم في أنهم يدمنون على المسكرات بشكل غير عادي، كما أنهم يميلون إلى الاهتمام بالاستمتاع بمظاهر الترف التي يوفرها لهم التقدم التقني، ولكن بمفردهم ودون تواصل مع الآخرين، كما يتخلون تدريجيا عن نمط ثقافتهم التقليدي الرفيع مما خلق نوعاً من التشوش والاضطراب الاجتماعي داخل المجتمع بأسره. ويذكر المؤلف ملامح أخرى للكارثة الاجتماعية في اليابان... وليس من شك في أن كونه قد عمل رئيساً لمكتب صحيفة "الواشنطن بوست" في طوكيو لمدة سبع سنوات، قد جعله أكثر أهلية من غيره لتناول هذا الموضوع، وأكثر قدرة على الإلمام بتفاصيله وتداعياته، نظراً لما أتاحته له تجربته من القدرة على ولوج هذه الثقافة المغلقة التي لا تفتح أبوابها بسهولة للغريب، وهي التجربة التي أتاحت له أيضاً مقابلة العديد من الشبان والشابات، والدخول معهم في مناقشات معمقة عن حياتهم وما يعانونه، وما يطمحون إليه وأسباب ذلك كله. وليس هناك شك أيضاً في أن ما قدمه المؤلف، وما توصل إليه من أحكام، سيكون محل جدل من الكثيرين، سواء في اليابان أو خارجها. غير أن ذلك يجب ألا يقلل من أهمية الجهد الذي بذله، ولا من أهمية الكتاب الذي يقدمه لنا، ولا من أهمية ما توصل إليه من استنتاجات تكشف أمام القارئ جانباً من خفايا ما يدور في المجتمع الياباني. الكتاب: حجب ضوء الشمس: كيف خلقت اليابان جيلها الضائع؟ المؤلف: مايكل زايلينزيجر الناشر: دابلزداي بابليشينج تاريخ النشر: 2006