ثمة أكثر من سبب يدفع لوصف الكتاب الذي نقترح قراءة خاطفة له هنا في السطور التالية بأنه كتاب غير عادي. والأهمية البالغة تبدأ من العنوان مباشرة: "إيران والسعودية والخليج... سياسة القوة في مرحلة انتقالية 1968- 1971"، وتزداد الأهمية من اسم مؤلفه الأمير فيصل بن سلمان آل سعود، ومن الموضوع الذي يقاربه وهو التجاذب الإقليمي الشديد بين إيران وعرب الخليج، ومن ثم النزاعات التي ترتبت على أفول الوجود البريطاني في المنطقة بعد صدور قرار 16 يناير 1968 عن الحكومة البريطانية القاضي بالعمل على تصفية وجودها في ما سمي منطقة شرق السويس في مدى زمني لا يتجاوز سنة 1971. وهو قرار أشَّر في كل الأحوال على تحولات جسيمة عرفتها فيما بعد اصطفافات وسياسات معظم اللاعبين الدوليين إزاء منطقة الخليج العربي، وأيضاً بروز دور بعض الدول الإقليمية التي كانت رياح التغيرات تسير كلها في اتجاه تعظيم مكاسبها الخاصة من تلك اللحظة المفصلية من تاريخ المنطقة، وفي مقدمة تلك الدول الإقليمية إيران، التي اعتبرت أن انتهاء ما سمي بـ"السلام البريطاني"، فرصة مناسبة لفرض نفسها على بقية دول المنطقة التي كان معظمها في طور التأسيس، أو في ظروف جيوسياسية غير مناسبة لكبح المطامع الإيرانية الجامحة. وقد ساعدت طهران على ذلك عوامل كثيرة أبرزها بداية انحسار الدور العالمي لبريطانيا العظمى، وعدم قدرة الولايات المتحدة على ملء الفراغ الجيوسياسي وتعديل اختلال التوازن الإقليمي الذي خلفه الانسحاب البريطاني بحكم انشغال أميركا في حرب فيتنام. وأيضاً سياسة "الحذر" الشديد تجاه الإقدام على البحث عن مواطئ قدم في المياه الدافئة التي كان يتبعها السوفييت، إذ كان يكفيهم ما تحصلوا عليه من تأثير متنامٍ في العراق الغني بالنفط. تضاف إلى كل هذا طبعاً الشهية التوسعية التي كان شاه إيران يعبر عنها بمواقفه، ويسعى من خلالها إلى جعل بلاده دولة مهيمنة في المنطقة. وقبل هذا وذاك تحول المنطقة ذاتها إلى عصب حيوي لإمدادات الطاقة العالمية، وبداية التكالب الدولي عليها تالياً. وهكذا ينطلق الكتاب في فصله الأول من العوامل الداخلية والدولية التي دفعت بريطانيا في ظل حكومة هارولد ولسون العمالية إلى اتخاذ قرار الانسحاب من المنطقة بحلول سنة 1971، ويركز على تأثير العوامل السياسية والاقتصادية. "كما يتطرق هذا الفصل أيضاً إلى الموقف الأميركي والصعوبات التي واجهتها إدارة ليندون بـ جونسون في التعامل مع التحديات الدولية المتزايدة أثناء حرب فيتنام". في حين يركز الفصل الثاني على طريقة رد الفعل الإيرانية على القرار البريطاني، وتصور طهران الخاص لمستقبل المنطقة وما أرادته لها من ترتيبات، "والفرضية الأساسية في هذا الفصل، هي أنه وبالرغم من مصالح إيران في الخليج، إلا أنه لم تكن لديها في عام 1968 سياسة جاهزة لحماية تلك المصالح". فقد كانت إيران منذ عقود عديدة مركزة أنظارها على حدودها الشمالية، وترى أن محددات وأولويات الأمن القومي الإيراني كامنة هناك عن طريق أحد التهديدين التاريخيين التركي والروسي، أما في ما يتعلق بالتعامل مع الحكام العرب في الخليج فقد كانت خبرة الإيرانيين محدودة ولذلك جاءت خطوات رد فعلهم على القرار البريطاني مرتبكة وغير متسقة لا مع الواقع ولا مع بعضها بعضاً كذلك. وفي الفصل التالي ينتقل الكتاب إلى انعكاسات وصول إدارة ريتشارد نيكسون إلى سدة الحكم في يناير 1969. وقد كان التطور الأبرز في ما يخص منطقة الخليج هو إعلان "مبدأ نيكسون" الذي أرسى عملياً هامش حركة أميركياً في منطقة الخليج يقوم على "سياسة الركيزتين المحوريتين"، ويستعرض الكتاب هنا أيضاً "الاعتبارات التي دفعت إدارة نيكسون إلى اعتماد موقف مؤيد بشدة لزيادة مبيعات الأسلحة الأميركية إلى إيران"، على رغم اختلال ميزان القوى والتوازن الإقليمي القائم لصالحها أصلاً على حساب جميع دول المنطقة. ويتناول الفصل اللاحق بعض أبعاد التجاذب الإيراني- العربي حول قضية البحرين، ثم ينتقل لبداية التجاذب والأطماع الإيرانية في الجزر الإماراتية الثلاث: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى. والتي يستكمل موضوعها الفصل الخامس والأخير من الكتاب الذي ركز بشكل خاص على السنة الأخيرة من الوعاء الزمني الذي يتناوله الكتاب بالدراسة، أي سنة 1971. وإذا كان الكتاب ينطلق من بروز الدور الإيراني في الخليج انطلاقاً من عوامل خارجية في مقدمتها القرار البريطاني (الانسحاب) واللاقرار الأميركي (الانشغال بفيتنام)، فإنه يتناول أيضاً وبمقاربة واضحة العوامل الذاتية الإيرانية الداخلية، وما عرفته مواقف طهران من تحولات سارت شيئاً فشيئاً "من دبلوماسية القوة إلى التسوية"، وتبرز هنا مسألة البحرين كنموذج واضح على ذلك. ومع تبني إدارة نيكسون في واشنطن لسياسة الاعتماد على إيران باعتبارها الحارسة الإقليمية للمصالح الأميركية، وجدت طهران فرصة سانحة لتعظيم ترسانة تسلحها، ما دعم ميلان ميزان القوى الإقليمي لصالحها أكثر فأكثر. وقد جاء عنوان الفصل الخامس "النزاع المستعصي"، ليشير إلى ما ظهر من تعقيدات بعد انفراج مسألة البحرين، من خلال بروز الأطماع الإيرانية مجدداً في الجزر الإماراتية الثلاث، وتأثير ذلك على علاقات إيران مع العرب. ويبرز الكتاب هنا دور الاستراتيجيا في دفع الشاه للتفكير في احتلال الجزر، والتجاذب الدبلوماسي الذي تلا ذلك بين إيران وبريطانيا. كما يستعرض ويسجل صلابة موقف ومبدئية حكام الإمارات في تعاملهم مع مختلف الضغوط والإغراءات التي عرضها الشاه عليهم للتخلي عن الجزر، ولكن دون طائل فقد ظلوا متمسكين بحقوقهم وبسيادتهم على جزرهم الثلاث. وهنا يستعرض الكتاب الخطة المبيتة التي دبرها الإيرانيون لاحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، مستغلين ظروف المرحلة الإقليمية الانتقالية، والانشغال بالمساعي الحثيثة لتشكيل اتحاد الإمارات الذي كان قيد التأسيس، وأيضاً مستفيدين من دعم أميركي عام يومذاك غير خافٍ، وتواطؤ بريطاني، حتى لو كان غير مُعلن. ومع أن الكتاب، غطى طيفاً واسعاً مما ترتب من تبعات لاحقة على تلك اللحظة المفصلية من تاريخ المنطقة، إلا أن تركيزه الأساسي كان على العوامل الخارجية، ولاشك أن للعوامل الداخلية الخليجية دوراً أيضاً في إنهاء الوجود البريطاني وتصفيته من المنطقة. تماماً كما أن الموضوع نفسه يتأبى على التصنيفات التقليدية بمعناها المبسَّط، فمع أن البحث يتناول موضوعاً سياسياً في العلاقات الدولية لمنطقة الخليج نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، إلا أنه أيضاً ينحو أحياناً منحى تاريخياً يصبح معه وصفه بأنه تأريخ معاصر لتلك اللحظات المفصلية، ممكناً أيضاً. وتزداد أكثر فأكثر راهنية الاشتباك خليجياً بين التاريخ والسياسة، إذا عرفنا أن بعض الأخطاء السياسية الإيرانية كاستمرار احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، ما زالت قائمة، على رغم مرور أكثر من ثلث قرن على تلك الظروف والملابسات التي يتحدث عنها الكتاب. فما أصعب فض الاشتباك إذن في منطقة الخليج بين التاريخ والسياسة، بين الماضي والماضي المستمر! حسن ولد المختار ---------- الكتاب: إيران والسعودية والخليج... سياسة القوة في مرحلة انتقالية 1968- 1971 المؤلف: فيصل بن سلمان آل سعود الناشر: دار النهار (ترجمة) تاريخ النشر: يونيو 2006