في خطاب ألقاه عام 2002 بجامعة وارسو أكد الرئيس الأميركي جورج بوش رؤيته بخصوص أوروبا حرة وموحَّدة تمتد "من البلطيق إلى البحر الأسود". لكن الاجتماع الذي سيعقد الشهر المقبل في لاتفيا على ساحل بحر البلطيق سيكون مناسبة سانحة للرئيس بوش وحلفائه في حلف شمال الأطلسي "الناتو" التساؤل عما حل بآمالهم العريضة في شرق أوروبا. وإجمالاً يمكن إبداء ملاحظة أساسية وهي أنه كلما انشغلت الولايات المتحدة وأوروبا بأمور خارجية، كلما ساءت الأمور في شرق أوروبا. فقد كان ذلك صحيحاً إبان أزمة قناة السويس عام 1956، حيث استغل الاتحاد السوفييتي انشغال القوى الكبرى وقام بغزو المجر. وفي عام 1968 عندما كانت الولايات المتحدة غارقة في حرب فيتنام قُمع ربيع براغ دون أن يحرك أحد ساكناً. واليوم وبالنظر إلى الصعوبات التي يواجهها "الناتو" في أفغانستان والمواجهات العنيفة التي تعيشها القوات الأميركية في العراق، ليس غريباً أن تقوم روسيا بالتنمُّر على محيطها الإقليمي الذي كان في السابق جزءاً من إمبراطوريتها السوفييتية البائدة، وأن تهدد أمن أوروبا في مجال الطاقة. ومع ذلك ليس الكرملين المنتعش مؤخراً بسبب تدفق أموال النفط، هو المسؤول الحقيقي عن مشاكل شرق أوروبا. وليست حتى تركيا التي تبدو غارقة في خليط غريب من مناهضة أميركا والعداء للسامية والتوجه الإسلامي المتنامي، السبب الأساسي في مأزق شرق أوروبا. فقد كانت تركيا في يوم من الأيام "رجل أوروبا المريض"، كما أن روسيا كانت تشكل خطراً على جيرانها منذ زمن بعيد. لكنَّ ما تغير فعلاً هو أن أوروبا وصلت أخيراً إلى حدودها النهائية وبلغ نفوذها مناطق شاسعة دون أن تمتلك رؤية واضحة لما ستقوم به مع جيرانها الجدد. فإلى الجنوب من فيينا تمتد كل من كرواتيا ومقدونيا وصربيا والجبل الأسود والبوسنة وألبانيا وكوسوفو... التي ظلت تنتظر على أبواب أوروبا منذ انتهاء حرب يوغوسلافيا عام 1999. وخلال قمة "الناتو" لهذا العام، كل ما يمكن أن يطمح إليه المرشحون الثلاثة، ألبانيا وكرواتيا ومقدونيا، هو أن تتم الإشارة إليهم في الصفحات الخلفية لبيان القمة. أما باقي بلدان البلقان الواقعة إلى الغرب من أوروبا فلم تحظ سوى بتفاعل هزيل مع الاتحاد الأوروبي. فحوالى أكثر من 70% من طلبة الجامعات الصربية لم تطأ أقدامهم أوروبا الغربية، وهو أمر قد لا يكون صادماً بالنسبة للأميركيين لكنه كذلك بالنسبة للأوروبيين الذين يفاخرون بتفاعلهم الكثيف فيا بينهم. وقد تخلى الطلبة الألبان عن محاولة الحصول على تأشيرة الدخول إلى إيطاليا واكتفوا بقضاء إجازاتهم في ليبيا. لكن بالمقارنة مع غيرهم تعتبر دول غرب البلقان الأوفر حظاً بين دول شرق أوروبا. فعندما تنضم رومانيا في ديسمبر المقبل إلى الاتحاد الأوروبي سوف تحاذي أوروبا مولدوفا التي بالكاد يصل ناتجها المحلي الإجمالي نصف الناتج المحلي لهايتي. وإذا كان من شيء تشتهر به مولدوفا فهو النبيذ الفاخر الذي تصدره إلى أوروبا. غير أن الحصار التي تفرضه روسيا على صادراتها بسبب ميولها الغربية، وامتناع الدول الأوروبية عن استيراد النبيذ منها بسبب منافسته لمنتوجها المحلي، يجعل ذلك البلد الصغير في مأزق حقيقي. وعلى غرار مولدوفا، تعاني أوكرانيا أيضاً من ميل واشنطن وبروكسيل إلى عزل الدول التي لا تفهمانها. فمنذ التسعينيات والولايات المتحدة تتبع سياسة متذبذبة تجاه أوكرانيا، حيث نصحتها في البداية بالبقاء ضمن الاتحاد السوفييتي خلال الخطاب الذي ألقاه جورج بوش الأب في كييف عام 1991. لكن سرعان ما احتفلنا باستقلال أوكرانيا وبرئيسها ليونيد كوتشما لنغير رأينا بعد ذلك عندما اكتشفنا أنه يبيع معدات عسكرية إلى صدام حسين. ومازال التذبذب يميز العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا وبين أوكرانيا إلى حد الآن حتى بعد مرور 17 عاماً على سقوط جدار برلين. ولعل ما يشوش العلاقات بين أوروبا وشطرها الشرقي، هو التعقيدات التي تنطوي عليها مجتمعات الاتحاد السوفييتي السابق، وفشل المؤسسات الغربية في التعامل معها. ولكن بدلاً من تكثيف جهودنا لفهم تلك المجتمعات وإدماجها في المنظومة الأوروبية، تنبني السياسات الأميركية والأوروبية الحالية على المزيد من الإقصاء والعزلة. ويبدو أن مشكلة شرق أوروبا الوحيدة هي غياب رؤية شاملة لدى واشنطن وبروكسيل وعدم وفائهما بالتزاماتهما تجاه أوروبا موحدة! بروس جاكسون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس مشروع الديمقراطيات الانتقالية واللجنة الأميركية داخل حلف "الناتو" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"