كان واضحاً لدى خلافتك للرئيس ياسر عرفات أنّ أولى العقبات التي ستواجهك أنك ورثت نظاماً غريباً، يمكن أن يسمى نظام "ثورياً أبوياً"، فقد كان الرئيس الراحل يحكم بأسلوب الرمز والأب المالك لمقاليد الأمور، يسيطر على مفاتيح القرار، ويجيد مناورات وتوازنات القوة، ويسيطر على الثروة وتوزيع الموارد... بينما تؤمن أنت بالمؤسسية والديمقراطية، وتفتقر للرمزية العالية التي راكمها عرفات، فأنت لم تكن يوماً قيادياً فاعلاً في ميدان الكفاح المسلح الذي أعطى عرفات جزءاً كبيراً من رمزيته. وكان خطابك هادئاً، في وقت تحتاج الثورات الخطابات والحماسة. واجتزت الامتحان الأول بإصرارك على ترشيح نفسك للانتخابات الرئاسية وفق برنامج سياسي واضح في تبنيه للتسوية السياسية، فكان ذلك بمثابة مبايعة للشخص والبرنامج. ثم تجاوزت الضغوط التي مورست عليك من داخل حركة "فتح" التي تنتمي إليها، لعدم إجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني، مجسداً إيمانك بالمؤسسية والديمقراطية. وكانت نتيجة الانتخابات، أن جاء خصومك السياسيون، من حركة "حماس"، لقيادة السلطة، وهم خصوم تختلف معهم لسببين، الأول أنّه ليس لهم برنامج سياسي، سوى رفض برنامجك، وثانياً، أنّهم يدّعون شرعية إلهية ودينية في وقت تحتكم فيه للمؤسسية، ومارست قيادتهم في دمشق المزايدات ضدك، لدرجة تخوينك، حتى قبل أن ينجلي غبار الانتخابات التي حرصت أنت عليها وفازوا بها. ولاشك أنك تعرف قبل غيرك، أنّّ التحدي أمامك، داخل إطارك السياسي، حركة "فتح"، يفوق صعوبة تحدي خصومك السياسيين، في وقت تستمر إسرائيل بحرصها على منعك من النجاح في أي برنامج للإصلاح، ولمنع أي تسوية سياسية عادلة، ولمنع أي عملية لبناء المؤسسات الفلسطينية. أسمح لنفسي أن أقول إن البعض قد يحسدك على خصومك، ولكن أحداً لن يحسدك على رفاقك في حركة "فتح". الذين أدى انقسامهم وممارساتهم، وفساد عناصر منهم إلى هزيمتهم انتخابياً، وتراجع برنامج الحركة السياسي, وحركة "فتح" لم تعد موجودة، سوى على شكل مجموعات مسلحة، لا تضبطها مرجعية تنظيمية أو سياسية، وفي بعض الحالات باتت تتبنى أفكاراً ومسميات لا تمت بصلة لحركة "فتح" التاريخية، فظهرت مجموعات مسلحين يرتزقون من حمل السلاح وتقديم الحماية مقابل المال، أو من الارتباط بقيادات داخل "فتح"، لديها تمويل من مصدر ما، أو ترتبط بوجاهات عائلية ورجال أعمال، ويتصل البعض بـ"حزب الله"، ويحمل البعض أسماء وشعارات أقرب لتنظيم "القاعدة"، من مثل إحدى المجموعات التي أطلقت على نفسها اسم "حركة فتح– كتائب التوحيد". ويشتد الضغط عليك الآن من أوساط في "فتح"، ومن جهات خارجية، لحل حكومة "حماس"، التي لا تقوم بفعل شيء عملي لإخراج الشعب الفلسطيني من أزمته. ولكن حل الحكومة سيكون كارثة على أكثر من مستوى، أولها، إجهاض العملية الديمقراطية. ثانياً، إعفاء "حماس" من واجبها بضرورة بلورة برنامج سياسي عقلاني. ثالثاً، قد تخرج "حماس" للمعارضة ثانية، وتدّعي أنّها حوربت ولم تعطَ فرصة لتنفيذ "رؤيتها"، أو قد ترفض قرار الحل وتندلع الحرب الأهلية. رابعاً، سيكون مثل هذا القرار بمثابة المسمار الأخير في نعش "فتح"، فالحركة لم ترمم صفوفها، ولم تخرج الفاسدين فيها، ولم تعقد مؤتمرها العام، ولم تنتخب قيادتها الجديدة، وعودتها للسلطة دون إصلاح تعني نهايتها وتمكن الفساد والفوضى منها للأبد. هذا كله يدعو لتبني أمرين، الأول، انغلاق على الذات داخل حركة "فتح"، ومنظمة التحرير، لمدة معينة، لإعادة البناء بتأنٍّ والتزام حقيقيين. والثاني، في أثناء ذلك، تمارس "فتح" والمنظمة واجبها الوطني، في مواجهة الحصار، وبدل أن تقود "فتح" إغلاق المدارس في الإضرابات، عليها أن تعود لدورها الذي مارسته في الانتفاضة الأولى، في تأمين التعليم الشعبي، والتكافل الشعبي، وعلى المنظمة، بعد ترميمها، أن تقود بنفسها الحركة الدبلوماسية لفك الحصار، وإقناع العالم بالتأقلم مع حكومة "حماس"، لحين خروجها بقرار شعبي ديمقراطي، والالتقاء مع "حماس" على برنامج حده الأدنى التهدئة والالتزام بوحدانية شرعية السلاح، ليتم ترك "حماس" وعجزها عن الحركة الدبلوماسية والسياسية أمام الشعب ومحكمته. aj.azem@gmail.com