حين نلقي بنظرة شاملة على المسرح العالمي في الوقت الراهن بما يموج به من حروب وصراعات وعنف، فإن المرء يتساءل هل نحن - بعيداً عن الأحداث العالمية المتناثرة في مختلف القارات- دخلنا في مرحلة صراع الحضارات التي سبق أن تنبأ بها المفكر السياسي الأميركي صمويل هنتينغتون؟ وإذا نحن حفرنا في تاريخ هذا المفكر، واكتشفنا أنه كان مفكراً استراتيجياً عمل لحساب إدارات أميركية مختلفة، فهل كان بنظريته الشهيرة يمهد للحروب التي ستخوضها الإمبراطورية الأميركية ضد أقطار متعددة تنتمي للعالم الإسلامي، أو ضد الصين في المستقبل البعيد؟ وإن لم يكن الأمر كذلك فما الذي جعله ينتقي في إطار ما تنبأ به من حروب ثقافية ستندلع في القرن الحادي والعشرين حضارتين أساسيتين ستدخلان في صدام مع الحضارة الغربية، وهما الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفيشيوسية؟ كل هذه أسئلة مشروعة من وجهة نظرنا، لأن الإمبراطورية الأميركية بدأت حربها فعلاً ضد العالم الإسلامي بداية بأفغانستان حين غزتها عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم ثنَّت بغزو العراق على أساس تهديده للأمن العالمي بزعم امتلاكه لأسلحة التدمير الشامل. ولم تكتف الإمبراطورية الأميركية بالعدوان العسكري، وإنما تجاوزت ذلك لتشعِل حرباً في مجال الأفكار من خلال خلطها سلوك بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة بالدين الإسلامي ذاته، باعتباره يحض على العنف، ومن هنا جاءت توصيفات الرئيس بوش الأخيرة، وهجومه على ما سماه الإسلام الفاشي. وبالإضافة إلى الانشقاق في النظام الدولي الذي أحدثته الغزوات العسكرية الأميركية وخطابها الإيديولوجي المتطرف، تجيء أحداث الرسوم المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في بعض الصحف الدانمركية، ومؤخراً محاضرة بابا الفاتيكان الشهيرة التي هاجم فيها الإسلام، ثم تراجع بتأثير نار الغضب التي اشتعلت في العالم الإسلامي، لكي تزيد موجِّهات الاضطراب في المناخ الثقافي العالمي. وليس هناك شك في أنه من الصعوبة بمكان استخلاص إطار نظري يمكن على أساسه فهم وتفسير ما يدور من صراعات عالمية وإقليمية ومحلية. ويرد غالبية المفكرين الاستراتيجيين ذلك إلى أنه عقب انهيار الاتحاد السوفييتى ودول الكتلة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، سقطت النظريات التي كانت تفسر السلوك الدولي في إطار النظام ثنائي القطبية، حيث كان يدور الصراع بين الشيوعية والرأسمالية في ضوء توازن الرعب النووي، مما كان يضفي نوعاً من الثبات النسبي في مواقف الدول العظمى. وحين هوى النظام ثنائي القطبية وبرز النظام أحادي القطبية الذي تهيمن عليه الإمبراطورية الأميركية، ظهر الاضطراب الكبير في مجال النظام الدولي، وذلك لأن الولايات المتحدة الأميركية لم تتردد في إذاعة ونشر نظريتها الأساسية والتي مبناها أنها ستهيمن على أمور العالم هيمنة مطلقة ولا معقب عليها إلى الأبد‍! وفي هذا الإطار أعادت صياغة نظريتها في الأمن القومي التي كانت تقوم على أساس مذهب "الاحتواء"، أي احتواء الشيوعية أيام الحرب الباردة، لكي تقنن حقها في القيام بضربات استباقية أو إجهاضية ضد أي دولة لو شعرت بنيتها في تهديد أمنها القومي! وبناء على ذلك كله خاضت الولايات المتحدة حربها ضد أفغانستان والعراق، وإذا أضفنا إلى ذلك تهديداتها لإيران، لفهمنا لماذا اعتبر السلوك الأميركي العدواني في أقطار إسلامية متعددة موجهاً ضد الإسلام ذاته باعتباره ديناً وليس فقط ضد سياسات دول إسلامية بعينها. وقد أدى رد الفعل الأهوج الذي مارسته الولايات المتحدة الأميركية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى ردود فعل متطرفة وإرهابية، ليس من قبل تنظيم "القاعدة" وحده الذي نسب إليه القيام بأحداث سبتمبر الإرهابية، ولكن من قبل جماعات إسلامية متطرفة وإرهابية أخرى تبنت فكر "القاعدة" وإن لم تكن تمثل فروعاً لها. وهكذا اشتعلت حرب الأفكار بين أصولية إدارة بوش المتعصبة المسكونة بهوى مسيحي صهيوني متعصب، وأصولية الجماعات الإسلامية المتطرفة، وذلك مما جعل بعض الباحثين يصفون الصراع الإيديولوجي الراهن بأنه صراع أصوليات ضد أصوليات، مع اختلاف المنابع والتوجهات والأهداف. ومن هنا يصح السؤال: ما هي نتيجة حرب الأفكار المشتعلة في الوقت الراهن بين الأصولية الأميركية والأصولية الإسلامية المتطرفة؟ مما يلفت النظر أن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي قد أصدر تقييماً عاماً لحرب أميركا ضد الإرهاب بعد خمس سنوات من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ونشر ذلك في تقرير أشرفت على تحريره جوليانا سميث وتوماس ساندرسون، وصدر هذا العام (2006). والتقرير ينقسم إلى ستة فصول حرر كل منها باحث أو أكثر. وقد اهتممنا على وجه الخصوص بالفصل الخاص بالإيديولوجية وصراع الأفكار. ومما يحمد للباحثتين اللتين حررتا هذا الفصل وهما جوليانا سميث وكارين فون هيبل، أنهما بعد استعراض كل الجهود الأميركية في مجال الصراع الإيديولوجي والفكري الذي خاضته الولايات المتحدة الأميركية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ضد أطراف متعددة في العالم وفي مقدمتها الجماعات الإسلامية المتطرفة من جانب ودول إسلامية من جانب آخر، لم تتوانيا عن إصدار حكم نهائي بالفشل الذريع الذي لاقته الولايات المتحدة الأميركية. وهذه الرؤية النقدية البصيرة انطلقت من فكرة جوهرية مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية التي تعاطفت معها دول وشعوب شتى عقب الأحداث الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر، سرعان ما فقدت هذا التعاطف بعد قراراتها المتعجلة بغزو أفغانستان، وقرارها غير المشروع بغزو العراق، وهكذا تحولت من "قائد كوني" هدفه استعادة السلم والاستقرار إلى العالم، إلى "مصدر كوني" لتهديد النظام العالمي، حتى في نظر حلفاء الولايات المتحدة التقلديين. وقد عددت هذه الرؤية أسباب الفشل الأميركى الذريع، وأهمها اضطراب الخطاب الرسمي الأميركي وخلطه غير الموفق بين نقد سلوك الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية بنقد الدين الإسلامي ذاته، باعتباره يحض على الكراهية والعنف. ومن ناحية أخرى فقد حاولت الولايات المتحدة الأميركية من خلال حملاتها في مجال الدبلوماسية العامة إقناع الجماهير الإسلامية والعربية أن هناك قيماً مشتركة بينها وبين هذه الجماهير، وأنشأت محطات إذاعية (مثل محطة سوا) وقنوات تليفزيونية (مثل قناة الحرة)، لبث اليقين في القيم الأميركية "السامية" غير أن الرؤية النقدية الأميركية تؤكد الفشل الذريع لهذه المحطات والقنوات، لأن السلوك الأميركي الفعلي في العراق، وخصوصاً خرقها لحقوق الإنسان في حوادث سجن أبو غريب وتعذيب المتهمين في جوانتانامو، تكفل بذاته بإثبات زيف الدعاوى الأميركية في تبنيها لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما يؤكد أنه في مجال السياسة يحكم على سلوك الدول بالأفعال وليس بالأقوال! والواقع أن الولايات المتحدة الأميركية وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر قدمت للعالم خطاباً متناقضاً، وذلك إذا عرفنا الخطاب بأنه المنطلقات الفكرية والسلوك معاً. وذلك لأن من أبرز المنطلقات الأميركية المعلنة هو إيمانها المطلق بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، غير أن السلوك الفعلي الأميركي يتناقض تماماً مع هذه المنطلقات. ومرد ذلك إلى السلوك الأميركي ذاته منذ عرض قضية غزو العراق أمام مجلس الأمن. ذلك أن غالبية أعضاء مجلس الأمن الدائمين عارضوا القرار وفي مقدمتهم فرنسا وألمانيا والصين وروسيا، وبالرغم من ذلك رفضت الولايات المتحدة قرار الأغلبية، وقامت بالغزو العسكري للعراق بناء على مزاعم لم تثبت إطلاقاً بأنه يمتلك أسلحة دمار شامل. ومن ناحية أخرى انقلبت الإدارة الأميركية على القيم الديمقراطية داخل المجتمع الأميركي ذاته، وقامت بدور قمعي مماثل لما كانت تقوم به الدول الشمولية من قبل، وسنت من التشريعات ما يسمح لها بمراقبة سلوك المواطنين الأميركيين والتصنت على مكالماتهم التليفونية، بل إن إدارة بوش نجحت أخيراً في تمرير تشريع من الكونجرس يتيح لها ممارسة التعذيب للمتهمين في قضايا الإرهاب لإجبارهم على الاعتراف! أين إذن الاحترام الأميركى المعلن لحقوق الإنسان؟ وما هي شرعية أن تقوم وزارة الخارجية الأميركية بإصدار تقرير سنوي يقدم لرئيس الجمهورية الأميركي بمخالفات الدول المختلفة في العالم لحقوق الإنسان وتوصياته بمعاقبة هذه الدول؟ ومن ناحية أخرى بذلت الدبلوماسية العامة التي أنفقت عليها الولايات المتحدة الأميركية مليارات الدولارات، كل جهودها لإقناع الجماهير في البلاد العربية والإسلامية بأنها لا تدعو فقط للديمقراطية في العالم العربي، ولكنها في مجال التطبيق ستدعم كافة مؤسسات المجتمع المدني النشطة لكي تسهم بشكل إيجابي في دعم الديمقراطية وتطويرها. وتقرر الرؤية النقدية الأميركية التي أشرنا إليها أن الولايات المتحدة الأميركية بالرغم من كل جهودها في هذا المجال، قد فشلت فشلاً ذريعاً، لأنها بكل بساطة تفتقد إلى المصداقية في أعين الجماهير العربية التي تكن عداء مستحكماً للسياسات الأميركية سواء في العراق أو في فلسطين. وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد ضربت الديمقراطية في مقتل من خلال سياساتها الاستعمارية في العراق، والتي بثت الفرقة بين مختلف الطوائف والتيارات السياسية العراقية، إلا أنها وفي وضح النهار خانت المثال الديمقراطي الذي تدعي أنها تتبناه، حين قاطعت حكومة "حماس" التي نجحت في انتخابات ديمقراطية نزيهة‍! ومعنى ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تقيم نموذجاً ديمقراطياً على هواها في العالم العربي، لكي تنشئ نظماً سياسية عربية تحقق مصالحها. فإن جاءت بالانتخابات الحرة حكومات تختلف في توجهاتها عن التوجهات الأميركية، فإن الإدارة الأميركية لا تتوانى عن مقاطعتها وشن الحرب الإيديولوجية عليها. والخلاصة أنه باستعراض سيرة الإمبراطورية الأميركية في مجال حرب الأفكار بعد الحادي عشر من سبتمبر وحتى الآن، فإنها وفقاً للتقييمات النقدية قد فشلت فشلاً ذريعاً، لأن الشعوب تحكم على السلوك الفعلي للدول وليس على خطاباتها الزائفة‍.