إزاء فشل الدولة العربية في القيام بوظائفها، يزداد الحديث اليوم في العالم العربي عن المقاومة وثقافة المقاومة. ويدفع الحماس للمقاومة إلى التوحيد بين ما هو قائم منها في حركة واحدة اسمها "المقاومة الوطنية"، كما لو كانت جميع الأعمال التي تستهدف المصالح الأجنبية في البلاد العربية تصب في هدف واحد هو تحرير العرب من السيطرة الأجنبية وتأكيد استقلالهم إزاءها. وهو ما تسعى إلى تسويده قوى أهلية وحكومات محلية فقدت هي نفسها ثقتها بالدولة التي تتحكم بها وأصبحت تراهن في تبرير وجودها على التلاعب بورقة المقاومة. والواقع أن المقاومات ليست واحدة وليست الأعمال الموجهة ضد المصالح الأجنبية أو ضد مواقع نفوذها وطنية، أو ذات أهداف وطنية جميعاً وبالضرورة. وقد يكون استهداف مثل هذه المصالح، بالعكس من ذلك، تقويضاً للعلاقات الإيجابية التي تحتاج إليها الشعوب والأمم للدفاع عن مصالحها على الساحة الدولية، وبالتالي سبباً لتعريتها وتعريض مصالحها القومية لأعظم الأخطار. فلا توصف المقاومة بالوطنية لمجرد أن من يحمل رايتها أناسا من أهل البلاد في مواجهة أناس أو قوى أجنبية، ولا لأن الفاعلين يتبعون في أعمالهم عقيدة قومية أو دينية. فعندما يساء تقدير الأوضاع أو فهمها يمكن لمثل هذه الأعمال أن تقود إلى عكس ما تهدف إليه، حتى عندما تكون نية القائمين بها مخلصة وصادقة. لا تكون المقاومة ذات صفة وطنية إلا عندما تهدف إلى حماية المصالح الوطنية العامة، وتحمل في طياتها، وهو ما ينبغي أن ينعكس في سلوكها وعقيدتها وبرنامجها معاً، مشروع بناء وطني يجمع الأطراف المكونة للأمة، ويتيح لها فرص التفاهم والتآلف والعمل المشترك. فما يجعل المقاومة وطنية هو توجهها لبناء حياة سياسية سليمة، مرتبطة بغايات وقائمة على قواعد عمل وقيم ومعايير عامة تنطبق على الجميع وتحظى بحد كبير من الإجماع العام. وهو ما يجعل منها حاملا لبناء أمة بالمعنى الحديث للكلمة. وهو ما يقصد بصفة الوطنية. ولم تكن ثورة الاستقلال جامعة ومؤسسة لوطن إلا بقدر ما كان تحرير البلاد من الوصاية الأجنبية جزءا من مشروع بناء دولة وطنية يتساوى الجميع فيها أمام القانون ويؤسسون على الحرية الوطنية المكتسبة حرياتهم الفردية وحقوقهم الإنسانية. وهو ما ينطبق كذلك على الانتفاضات السياسية الوطنية ضد الاستبداد والفساد. أما تلك المقاومات التي تهدف إلى الدفاع عن مصالح فئوية خاصة، سواء أكانت اجتماعية أو مذهبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية... فهي لا تحمل صفة الوطنية، حتى لو استهدفت مصالح أجنبية وكانت تحظى بالشرعية السياسية والأخلاقية. من هذا المنظور، ليست مقاومة وطنية تلك الأعمال التي تهدف إلى إرهاب السياح أو المستثمرين والعاملين الأجانب، ولا تلك التي تستهدف، سراً أو علناً، تحسين مواقع فئة أو قوة سياسية أو اجتماعية في ساحة المنافسة الوطنية، ولا تلك التي تعمل على تحرير طائفة أو أقلية من اضطهاد طوائف أو جماعات أخرى، حتى لو تمتعت هذه المقاومة بقسط كبير من الشرعية. فصفة المقاومة مرتبطة بالغاية التي تعمل لأجلها، والمقاومة الوطنية هي التي تعمل لإعادة بناء الوطن من حيث هو اجتماع لوحدة الأرض والدولة والجماعة، مما يستدعي التمسك بالوحدة الترابية وتعزيز سيادة الدولة وتأكيد الحقوق والواجبات المتساوية لجميع الأفراد. كل ما عدا ذلك مقاومات أخرى، لا علاقة لها بالمقاومة الوطنية حتى لو كان لها ما يبررها ويفرض واجب دعمها أو التعاطف معها. بل ربما عكست هذه المقاومات بشكل أكبر، في طبيعتها ووسائل عملها وانقسامها وانتشارها، غياب هذا المشروع الوطني الجمعي، وارتداد الجماعات التي كانت تشارك فيه على الدولة التي ترمز إليه، وسعيها إلى تأمين مصيرها الخاص بها على أنقاضه، سواء أكان ذلك من خلال السيطرة على مواقع ومصالح الجماعات الأخرى الشريكة، أو بالانفصال عنها والارتباط بقوى خارجية، أو بالخروج الكامل من الساحة السياسية الداخلية، للعمل على الساحة العالمية، وفي إطار جيوستراتيجي شامل، لزعزعة المنظومة الدولية باعتبارها مرتكز الدولة المضادة الناشزة وحاضنتها، وهو ما تمثله بعض الحركات المتطرفة الإسلاموية. وباستثناء فلسطين التي تحولت فيها حركة "حماس" إلى امتداد بوسائل أخرى للحركة الوطنية الفلسطينية الساعية إلى التحرر من استعمار استيطاني بغيض، ليس في ما هو قائم بذرة أو جنين مشروع مقاومة وطنية، ولكن مشاريع مقاومة خصوصية تتغذى من بقايا المشروع الوطني وتعيش على حطامه. وفي معظم هذه الحالات، لا يعكس رفض الدولة والعمل على تحطيمها نشوء مفهوم جديد وإيجابي لإعادة بناء النظام على أسس مختلفة، لا على المستوى الوطني ولا العالمي، ولا يرتبط بوجود مكونات إعادة بناء الدولة نفسها على أسس أفضل، تضمن تجديد فكرتها وإعادة تأهيلها، وتحويلها إلى إطار لبناء حياة أو علاقات جمعية أخلاقية قائمة على قاعدة القانون والمساواة بين الأفراد، والمشاركة في المسؤولية عند الرأي العام. إنه يعبر عكس ذلك عن خيبة أمل الجماعات المختلفة بالدولة، ويأسها من إصلاحها وجعلها أقدر على تلبية مطالبها العينية الملموسة في المشاركة في السلطة، أو على تأمين شروط الحياة والخدمات الأساسية. فهي لا تزال تقوم على السلب ولا تملك بعد فرصة تحولها إلى حركة إيجابية تنحو نحو التوحيد والتوليف والبناء والتأسيس الأخلاقي والقانوني. لذلك هي تتخذ في كل الحالات، حتى عندما تكون وطنية الأهداف، أشكالاً خصوصية تتميز بها عن غريمتها الأخرى، مذهبية أو أقوامية أو طائفية، وتجعل من هذا التميز منبعاً لتوليد عصبية جزئية تشكل قاعدة للتضامن والتفاهم والألفة التي تمكنها من توفير السلوكات والفعاليات الكفاحية، الخاصة بها وحدها، وعلى نطاقها المحدود. وليس هناك بعد أي عقيدة أو أيديولوجية أو قيمة أو شعار أو رمزيات يمكن أن تجمع بين الأطراف المقاومة، أو تشكل قاسماً مشتركاً لها. فما يقرب الواحدة ينفر الأخرى، وما يشكل هدفاً لبعضها يشكل مصدر قلق وثورة عند بعضها الآخر، حتى عندما تنتمي جميعها إلى الأيديولوجية الإسلامية أو القومية نفسها. ومعظمها أقرب بالفعل إلى الممانعة منها إلى المقاومة، بقدر ما تعني الممانعة رفض النظام القائم فحسب من دون وجود أي مشروع بديل لإحلاله محله. لذلك، وبصرف النظر عن المظاهر السطحية الخادعة التي توحي بإجماع ضد الهيمنة الأجنبية، فما نعيشه اليوم هو في العمق، حرب أهلية، تكملها وتغطي عليها صدامات مفهومة ومشروعة مع قوى خارجية. فالمستهدف الأول في النزاع هو دائما أطراف محلية متنافسة فيما بينها على السيطرة الداخلية، سواء من أجل تحييد منافسيها أو إحراجهم أو قطع الطريق عليهم أو إخضاعهم لأجندة خصوصية، في إطار إعادة ترتيب القوى والمواقع والمصالح على أرضية النزاع المتفجر على السلطة والموارد الوطنية. فكل الأطراف تسعى من خلال الممانعة وإعاقة مشاريع الغير إلى تحقيق مصالح جزئية خاصة بها. وهذا يفسر أن عداء بعض المقاومات لقوى أجنبية معينة لا يمنعها من تبرير تحالفاتها مع قوى أجنبية أخرى، أو التفاهم معها ضد الجماعات المحلية المنافسة لها. كما لا تمنع وحدة شعاراتها المعادية للغرب والهيمنة الأجنبية من تفاقم الانقسامات والنزاعات داخل المجتمعات العربية. وهو ما يفسر كوننا نعيش إلى الآن حالة خصومة متنامية داخل البلدان والمجتمعات، ونغرق في الخلافات والصدامات الأهلية، أكثر مما ننزع إلى تجاوز الخلافات أو العمل على إعادة بناء الفكرة الوطنية وتوليد إرادة تحررية حقيقية، تجاه الاحتلالات الداخلية والخارجية!