ما ذكرته بعض المصادر السُّنية حول ما "سقط" من القرآن يطرح عدة إشكالات. فإذا تجاوزنا ما قيل بصدد آية أو بضع آيات، مما سبق ذكره (المقال قبل الماضي)، باعتبار أن ذلك من الأمور المقبولة في كل عملية جمع تتم في ظروف مماثلة، فإن ما يلفت الانتباه أمران اثنان: أولهما: كون ما ذكر أنه "محذوف" ينتمي إلى القرآن الكريم في العهد المدني وحده، ولم يذكر قط أن "الحذف" طال شيئاً ينتمي إلى القرآن في العهد المكي. هذا مع العلم أن إمكانية "سقوط آيات أو سور" كانت أكثر احتمالاً في القرآن المكي منها في المدني، نظراً للظروف القاسية التي عانى منها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في مكة قبل الهجرة، ونظراً أيضاً لأن الانتقال بالقرآن المكي إلى المدينة بعد الهجرة، وقبل فتح مكة، كان يتم في ظروف بالغة الصعوبة. ثانيهما: كون "الحذف" في القرآن المدني قيل إنه طال سورتين فقط هما: سورة الأحزاب وقد نزلت حوالي الخامسة للهجرة وسورة التوبة وقد نزلت في التاسعة. - أما سورة الأحزاب فتقول عنها بعض الروايات إنها كانت تشتمل على نحو مائتي آية لم يبق منها سوى 73 آية، وهذه الآيات تتوزع (في المصحف). إلى خمس مجموعات: 1) مقدمة من ثلاث آيات تطلب من النبي أن يتبع ما يوحى إليه. 2) أربع آيات تبطل التبني. 3) تسع عشرة آية تتحدث عن غزوة الخندق وما لقي المسلمون فيها من متاعب. 4) اثنتان وأربعون آية (28-69) خاصة بنساء النبي. 5) خاتمة من أربع آيات في موضوع "الأمانة" (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ...). - وأما سورة براءة فتقول بعض الروايات إنها كانت تعدِل سورة البقرة أي نحو 286 آية وإنه لم يبق منها إلا 129، وهي تتوزع كما يأتي بدون بسملة ولا مقدمة: 1) خمس عشرة آية تعلن فسخ المعاهدات مع المشركين. 2) تسع آيات فيها تمجيد للذين هاجروا وجاهدوا، وإعلان القطيعة مع الذين بقوا على الشرك بما فيهم الآباء والأبناء. 3) أربع آيات في التذكير بغزوة حنين وفيها لوم وعتاب وتنويه بالمؤمنين الصادقين. 4) تسع آيات في إعلان القطيعة مع أهل الكتاب: الإسلام أو الجزية. 5) تسعون آية تفضح مواقف المتخاذلين والمترددين والمنافقين والأعراب من الاستجابة للتجنيد من أجل غزوة تبوك. ولذلك وصفت هذه السورة بأوصاف ذكر منها الزمخشري: "براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافزة، المثكِلة، المدمدمة، سورة العذاب". ويروي الزمخشري عن حذيفة أنه قال بصدد هذه السورة: "إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه". 6- خاتمة: آيتان: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ... وواضح أن ما تشترك فيه السورتان هو ما ورد فيهما من لوم وعتاب للمسلمين بسبب مواقف الذين منهم لم يُظهروا ما يكفي من صدق الاستجابة والاستعداد والصبر أثناء غزوة الخندق وغزوة حنين وحين تجهيز جيش غزوة تبوك. لقد اشتملت السورتان على "نقد داخلي" ومراجعة وحساب و"كشف عورات" -خاصة سورة براءة- مما لم يرد مثله في أية سورة أخرى. ولا نعتقد أن ما سقط منهما من الآيات –لو كان هناك سقوط بالفعل- يتعلق بهذا الموضوع لأن ما احتفظت به السورتان كان عنيفاً وقاسياً إلى درجة يصعب معها –بالنظر إلى أسلوب القرآن في العتاب- تصور ما هو أبعد من ذلك. أما الموضوعات الأخرى فقد ورد ما هو من جنسها في كثير من السور. وكل ما يمكن قوله على –سبيل التخمين لا غير- هو أن يكون الجزء "الساقط" من سورة براءة هو القسم الأول منها، وربما كان يتعلق بذكر المعاهدات التي كانت قد أبرمت مع المشركين. ذلك أن سور القرآن، خاصة الطوال منها، تحتوي عادة على مقدمات تختلف طولاً وقصَراً، مع استطرادات، قبل الانتقال إلى الموضوع أو الموضوعات التي تشكل قوام السورة. أما سورة الأحزاب فيبدو أن ما زُعم أنه "سقط" منها مبالغ فيه. وحجتنا في ذلك أن عمر بن الخطاب وغيره قد ذكروا آية واحدة كانت فيها وسقطت، وهي آية "الرجم". والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو التالي: لماذا وقع تذكر هذه الآية وحدها دون الباقي المفترض فيه أنه محذوف منها؟ ومما يشكك في كون ما قيل إنه "حذف" من سورة الأحزاب كان أكثر من آية "الرجم" ما نسب إلى عائشة زوج النبي من أنها قالت: إن هذه السورة كانت مكتوبة في صحيفة في بيتها "فأكلتها الداجن، أي الشاة". ونحن نميل مع ابن عاشور في اعتراضه على هذا بقوله: "ووضع هذا الخبري ظاهر مكشوف فإنه لو صدق هذا لكانت هذه الصحيفة قد هلكت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده والصحابة متوافرون وحُفاظ القرآن كثيرون فلو تَلِفت هذه الصحيفة لم يتلفْ ما فيها من صدور الحفاظ". وحتى إذا استبعدنا فكرة "الوضع" فإنه من الجائز أن يكون ما اعتبر "محذوفاً" من سورة الأحزاب هو نفسه ما ورد في سور أخرى، كما ذهب إلى ذلك ابن عاشور نفسه حين قال: "وأنا أقول: إن صح عن أبيّ ما نُسب إليه -حول سورة الأحزاب- فما هو إلا أن شيئاً كثيراً من القرآن كان أُبيٌّ يُلْحقه بسورة الأحزاب وهو من سور أخرى من القرآن، مثل كثير من سورة النساء الشبيه ببعض ما في سورة الأحزاب أغراضاً ولهجة مما فيه ذكر المنافقين واليهود، فإن أصحاب رسول الله لم يكونوا على طريقة واحدة في ترتيب آي القرآن، كما ولا في عِدّة سور وتقسيم سوره". وخلاصة الأمر أنه ليس ثـمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس، منذ جمعه زمن عثمان. أما قبل ذلك فالقرآن كان مفرقاً في "صحف" وفي صدور الصحابة. ومن المؤكد أن كثيراً مما كان يتوفر عليه هذا الصحابي أو ذاك من القرآن –مكتوباً أو محفوظاً- كان يختلف عما كان عند غيره، كماً وترتيباً. ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه، زمن عثمان أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذُكر في مصادرنا. وهذا لا يتعارض مع آية "الحفظ" وهي قوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر 9)، فالقرآن نفسه ينصُّ على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ. ففي إمكانية "النسيان" قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم: "سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ" (الأعلى 3-7)، وفي "التبديل" قال: "وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ" (النحل 101)، وفي نسْخ التمني قال: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ" (الحج 52)، وفي النسخ والنسيان قال: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا" (البقرة 106)، وفي المحو قال: "يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" (الرعد 39). ومع أن لنا رأياً خاصاً في معنى "الآية" في بعض هذه الآيات، فإن جملتها تؤكد حصول التغير في القرآن وأن ذلك حدث بعلم الله ومشيئته، (أضف إلى هذا أن ذلك لا يتعارض مع آية "الحفظ". ذلك أن ما حصل من التغيير في القرآن وفق ما نصت عليه الآيات السابقة حدث قبل جمع القرآن الجمْع النهائي في مصحف واحد. أما آية "الحفظ" فهي من سورة الحجر التي نزلت في مكة، ربما في مرحلة مُبكرة، إذ فيها آية: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" (الحجر 94) التي يعتبرها جل المفسرين أنها تدعو النبي عليه الصلاة والسلام إلى الانتقال بالدعوة من السرية إلى العلانية. وقد وردت في سياق الجدل مع المشركين. وباعتبار تاريخ نزول السورة التي فيها قوله تعالى : "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" فإن هذه الآية تكون منسوخة، قد نسختها آيات "النسيان"، "التبديل"، و"التمني" و"النسخ" و"المحو"، لكون هذه الآيات نزلت بعدها وهي مدنية. لكن القول بالنسخ في هذا الموضع لا يستقيم، وبالتالي فلا تعارض بين هذه وتلك، خصوصاً وقوله تعالى "وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" يشعر بأن الأمر يتعلق بالمستقبل، أي أن حفظ القرآن ككل سيتم بعد اكتمال نزوله وجمعه. وهذا ما حصل. ملاحظة: ما كتبناه هنا ابتداء من فتح القوس الأخير عند قولنا: "أضف... أضفناه على أصل هذه المقالة التي نختم بها المقالات التي نشرنا هنا حول القرآن والتي توجد الآن ضمن كتاب صدر لنا بعنوان "مدخل إلى القرآن الكريم". وابتداء من الأسبوع القادم سننشر مقالات في تحليل النص الكامل لخطاب البابا والرد عليه.