كتب المؤرخ الفرنسي "جي لوغوف" منذ بعض الوقت، بروح من التشاؤم العميق والغضب المرير، مُديناً العولمة، على النحو التالي: إنها "لم تغتصب ثقافات الشعوب فقط، وإنما اغتصبت كذلك التاريخ". وجاء آخرون من هنا وهناك يطرحون "المشهد المأساوي"، الذي يخترق العالم بقوة الكلمة والصورة والسلاح، مبشّراً باختزال العالم إلى "سوق كونية" تغدو سيد الموقف، وبقيادة "ثقافة" منزوعةٍ منها روحُ التنوع والتاريخ. وقد أشار إلى ذلك عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي- شتراوس، حين وضع يده على استحالة تلك الثقافة، بسبب من أن أية شريحة من البشر ليس بإمكانها "أن تملك صيغاً يمكن تطبيقها على الكل". إن هذا وذاك يفصحان عن نمط قاسٍ من الشعور بالإحباط، وربما كذلك -وهذا مهم وخطير في الوقت ذاته- بالحنين إلى أيام أخرى انصرمت، وكانت تعجّ بالتفاؤل والتقدم على صعيد الحياة الإنسانية الأخلاقية والجمالية والمعرفية والسوسيو-ثقافية. وتكتسب تلك الوضعية خصوصية مفْعمة بمثل ذلك النمط القاسي من الشعور بالإحباط، حين نضع أيدينا على إرهاصات عن طريق النكوص إلى الوراء فيما يتصل بالمرأة عموماً وخصوصاً. فلقد انفتحت الأبواب على "فردوس جهنمي" يحمل وعوداً للمرأة هائلة في تسارعها وفي قدرتها على إدهاشها وتغْبيش عينيها، بل في اختراقها بحالة من الدُّوار. ذلك لأن ثورتي الاتصالات والمواصلات أنتجتا أوضاعاً لا عهد للنساء والرجال والأطفال بها. ولابد أن البث الفضائي المتسارع والمتعاظم والمتشامل، راح يُحدث صدمة في عقول أولئك وضمائرهم وإحساساتهم، ويحثهم -بسرعة تقطع الأنفاس- على التسمّر أمام مشاهد لم يعهدوها من قبل، إلاّ مع استثناء ما أطلق عليه فرويْد "العقل الباطن"، الذي يُحيل إلى مرحلة "الإنسان الطبيعي". وكان للمرأة دورٌ في ذلك يُصرُّ على أن يتعاظم ويتحدّد، تماماً، يداً بيد مع تيار دافق من الإفقار والإفساد والقمع والقهر، خصوصاً على أصعدة الاقتصاد والسياسة والسيكولوجيا. وراح الأمر يبدو وكأن الناس انصاعوا لذلك، بيد أن الكثير منهم أخذوا يكتشفون أن "القرية الكونية الوحيدة- السوق" تشتغل بآليات متعددة أهمها أن يتحول المسوِّقون إلى مسوَّقين، وأن يصبح الجميع أشياء يستمدون أرواحهم وذواتهم من تلك القرية السوقية. قد ندرك، والحال كذلك، أهمية ما يكتبه باحثون ومثقفون وسياسيون غربيون في المرحلة الراهنة، حول الثنائية الأبدية (المرأة والرجل). وهذا ينطبق على كتاب "النساء في الفكر السياسي الغربي"، الذي ألّفته الباحثة سوزان موللر، وتُرجم إلى العربية في العام المنصرم. وليس مهماً أن نفصّل في هذا الكتاب، فهو تقريباً بحث في تاريخ المرأة كما تجلّى في آثار أربعة فلاسفة غربيين، هم أفلاطون وأرسطو وستيورات ميل وروسو؛ مع إضافة تقدمها المؤلفة حول المرأة والأسرة في الحقل الأميركي. أما ما يتوقف المرء عنده في هذا الكتاب فيتمثل في أمرين اثنين: يتحدد أولهما في إنجاز ترجمة عربية له، مما يسهم في الحوار الدائر بفتور بين أطراف عربية وإسلامية حول المرأة والعمل والثقافة في إطار التدفق العولمي اللاهث، وضمن مجتمعات عربية وإسلامية تهيمن فيها أو في جلّها نظُم أمنية مُغلقة على النساء والرجال جميعاً. أما الأمر الثاني فيقوم على دراسة المؤلفة على صعيد ما قدّمه ستيوارت ميل في كتابه "استعباد النساء"، فبحسب ذلك، يصل الفيلسوف المذكور في نتيجة كتابه إلى أنه نظراً للصعوبات الجمّة، التي تحاصر البحث في قضية المرأة، فقد راحت هذه القضية تبدو -في صعوباتها المعنية- أقرب إلى إشكالية تحرير الزنوج في الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك وبمقتضى الموقف، فإن محاولة إعادة المرأة إلى "جسدها" عبر سلْخها من هُويتها المجتمعية التاريخية، إنما هي طريق إلى العبودية الجديدة، عبودية السوق والمال والجسد والاستهلاك. فهي، ها هنا، في مقدمة قائمة الترشيح إلى مسوِّقة مسوَّقة في هذا السوق. إن قضايا عريقة في تاريخ الفكر السياسي والاجتماعي تقفز من جديد إلى المقدمة، فقضية تحرر المرأة سياسياً وقانونياً واقتصادياً وثقافياً... إلخ، تطرح نفسها من جديد، لكن في سياق "سحْب السياسة" من المجتمع الأميركي (هنا العولمي)، مما يطرح التساؤل فيما إذا كانت هذه القضية ستُناقش وتعالج "تحت سنابك الخيل"، أي في مجتمع يسعى -بقياداته الكبرى والعليا- إلى عسكرة الحياة كلها، وفق مبادئ الحروب الاستباقية والحروب الافتراضية وبمساعدة طواقم من "المختصين" لإنهاء "عصر الأنوار" من التاريخ الأوروبي والأميركي وامتداداته في العصر الراهن. لكن يبدو أن الأمر ليس على النحو من استسهال المواقف، لأنه يستفزّ قوى حية في العالم من الصعوبة الكبرى أن تفرّط بمنجزاتها الإنسانية، بمن في ذلك "المرأة- الإنسان".