حلت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بالقاهرة الثلاثاء الماضي فأجرت ما أجرته من اتصالات سياسية رفيعة المستوى، ثم اختارت أن تلتقي بثلاثة من الصحفيين المصريين يمثلون صحيفتين مصريتين مهمتين وثالثة عربية لا تقل عنهما أهمية. تحدثت رايس إليهم طويلاً عن الديمقراطية وأشياء أخرى فيما وصفه الكاتب المصري الكبير سلامة أحمد سلامة الذي كان واحداً من الثلاثة الذين حضروا اللقاء بأنه "مرافعة بليغة" دافعت فيها رايس عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وقد يأذن لنا الكاتب الكبير بأن نختلف معه حول هذا الحكم، إذ إن مرافعة رايس لم تخلُ –على نحو ما سنرى- من التناقضات المعهودة في السياسة الأميركية عامة وسياسة الإدارة الأميركية الراهنة خاصة. وليكن حديث رايس عن الديمقراطية هو المنظور الذي نتأمل من خلاله تصريحاتها ونحاول تحليل دلالاتها المهمة. تضمن حديث رايس بداية التأكيد على حالتين من التراجع عن مواقف أميركية سابقة، وبصفة خاصة كما بلورتها وثيقة الشرق الأوسط الكبير التي أعلنت في فبراير 2004، أما التراجع الأول فهو قولها بأن "للديمقراطية أنماطاً وأشكالاً وصياغات مختلفة في كل مكان وفي كل بقعة من بقاع الأرض"، ومجرد القول بهذا –على صحته- يؤكد أن مفهوم الديمقراطية بات في الإدراك السياسي الأميركي الرسمي نسبياً نسبية "مطلقة"، وأنه أصبح يتسع لتجارب شتى يستطيع أصحابها الادعاء بأنها تجارب ديمقراطية، ومن ثم فإن السياسة الأميركية الماضية التي انتقدتها رايس غير مرة –بما في ذلك في لقائها الأخير بالصحفيين المصريين- على أساس أنها ركزت على الاستقرار دون الديمقراطية في المنطقة مرشحة للاستئناف –أو بالأحرى الاستمرار- لأنني لا أعتقد أن هذه السياسة وضعت يوماً الديمقراطية شرطاً لبناء التحالفات السياسية مع القوى الإقليمية في المنطقة، وليس أدل على هذا من أنه كان واضحاً أن لرايس تحفظاتها على طبيعة خطى الإصلاح ووتيرتها في دولتين عربيتين كبيرتين صديقتين لها –وإن عبرت عنها بدبلوماسية فائقة- ومع ذلك فإن هذه التحفظات لا علاقة لها البتة بالعمل المشترك بين الولايات المتحدة وبينهما إزاء قضايا المنطقة. يبدو مما سبق إذن أن التراجع الأول لرايس ذو طابع سلبي بقدر ما يؤكد أن مفهوم الديمقراطية لديها ولدى إدارتها أصبح مطاطاً إلى الدرجة التي لا يصلح معها أن يكون هادياً لعملية تحول ديمقراطي جذري في المنطقة –بافتراض أن الإدارة الأميركية تريد ذلك أصلاً- غير أن التراجع الثاني يحمل في ظاهره دلالات إيجابية، وقد نذكر أن وثيقة الشرق الأوسط الكبير عندما طرحت للمرة الأولى في فبراير 2004 لم تكن تتضمن حرفاً واحداً عن حل الصراعات الإقليمية أو تسويتها، بحيث بدا وكأن التطور الديمقراطي في المنطقة يحدث بمعزل عن هذه الصراعات تماماً، وقد نذكر أيضاً أن الجدل عندما احتدم في المؤتمرات والمنتديات المختلفة بين رجال الإدارة الأميركية وبين ممثلي القوى المتحفظة على مبادرة الشرق الأوسط الكبير كان يركز على هذه المسألة تحديداً: هل يمكننا أن نمضي قدماً في إنجاز تطوير ديمقراطي حقيقي بينما يحدث في فلسطين ما يحدث على يد الاحتلال الإسرائيلي، ويشهد العراق ما يشهده من أنهار دماء بسبب الاحتلال الأميركي؟ في حديثها الأخير إلى الصحفيين المصريين الثلاثة بدت رايس مراجعة لموقفها وموقف الإدارة الأميركية في هذا الخصوص عندما قالت: "نحن نسعى إلى دعم تطوير الشرق الأوسط بطرق سلمية عن طريق التركيز على الصراعات طويلة الأمد مثل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والصراع الأكبر وهو الصراع العربي- الإسرائيلي". يعني هذا أن رايس ومن تمثلهم باتوا متأكدين من استحالة التطوير السلمي للشرق الأوسط على طريق الديمقراطية أو غيرها دون معالجة للصراعات الإقليمية الأساسية فيه، وهو تحول إيجابي في إدراك الأمور دون شك، غير أن هذا التحول تحيط به محاذير كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر مدى صدقيته، فكما قال سلامة أحمد سلامة بخصوص الانطباع السائد في مصر والمنطقة بخصوص الزيارة أنها "تستهدف بالدرجة الأولى إحكام التعاون الاستراتيجي بين الدول العربية (6+2) لمواجهة بروز الدور الإقليمي لإيران في صورة صياغة تحالف مُضاد لإيران، ومن أجل هذا كان لابد من تقديم جزرة مُغرية تقوم على التظاهر بأن واشنطن تسعى جدياً لحل القضية الفلسطينية بعد سنوات من الإهمال والتباعد، وترك الحبل على الغارب لإسرائيل". ومن ناحية أخرى –وبافتراض جدية الإدارة الأميركية في مسعاها المفترض لدفع جهود التسوية- فإن ثمة سؤالاً مهماً: هل تصمد السياسة الأميركية -إن توصلت لشيء مفيد- أمام الصلف الإسرائيلي وضغوط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة؟ علماً بأن النموذج العام للعلاقات الأميركية- الإسرائيلية يشير إلى ندرة سوابق هذا الصمود وطابعها المؤقت وفحواها الجزئي. لكن حديث رايس إلى الصحفيين الثلاثة تضمن أيضاً مواقف مألوفة من الارتباك في العمل، فبعد العزف الدائم على وتر التطوير الديمقراطي في المنطقة يتضح لنا أن الأمور ما زالت أميركياً على ما هي عليه، وأن العبرة بما تعززه الديمقراطية من نتائج وليس بها في حد ذاتها، فلا بأس أن يكون لبنان لدى رايس نموذجاً للتطور الديمقراطي طالما أتت آخر انتخابات تشريعية أجريت فيه بحكومة أكثرية تتفهم السياسة الأميركية وتتعاون معها، لكن الحكومة المنتخبة ديمقراطياً في فلسطين لا تستحق منها أي تأييد، وإنما يذهب التأييد كله للرئيس الفلسطيني على الرغم من أنه لا يعدو أن يكون شقاً –وإن رئيسياً- في بنية السلطة الفلسطينية. بل تحدثنا التقارير عن تدفق أسلحة أميركية لحرسه الرئاسي لا يمكن أن يفهم إلا في سياق تقويته في مواجهة حكومته المنتخبة ديمقراطياً، مع أنها نعت على سلطة ياسر عرفات –الذي تحدثت عنه بطريقة غير لائقة- أن قواته الأمنية كانت مجرد حرس لأفراد! أما في العراق فإن الارتباك يستمر لأن رايس تبدو فخورة بما تحقق فيه، وبمجرد واقعة ذهاب أكثر من 12 مليوناً ونصف المليون إلى صناديق الانتخاب، ووجود برلمان وصحافة نشطة وأحزاب سياسية متجاهلة أن كل هذا الشكل الديمقراطي لم يمنع انتهاكات فادحة لحقوق الإنسان العراقي وتهديد حقه في الحياة أصلاً، ناهيك عن تهديد بقاء العراق ككل ككيان سياسي موحد ومستقر. يبقى أن رايس في حديثها عن الديمقراطية قد أقامت علاقة بينها وبين إحلال السلام في المنطقة: "نحن نؤمن بأن الديمقراطية والتحديث في الشرق الأوسط هما أفضل فرصة من أجل إحلال السلام والاستقرار الحقيقي في المنطقة، ونعتقد أن المؤسسات الديمقراطية هي الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله حل الخلافات بالطرق السلمية"، وهو قول غير دقيق، فلاشك أن الديمقراطية تمثل آلية ممتازة للتوصل إلى حلول للصراعات الدولية عندما تنضج مقومات هذه الحلول. لكن الديمقراطية لا تستطيع وحدها أن تفعل شيئاً في مواجهة سياسة ذات طبيعة عدوانية تؤمن بجدواها غالبية الرأي العام كما هو الحال في إسرائيل على سبيل المثال، ومن ثم فإن العمل من أجل السلام يقتضي جهوداً هائلة ومتشابكة تتجاوز بكثير دفع التطور الديمقراطي في المنطقة، وهي جهود قد لا تتمكن رايس ومن معها من بذلها –إن صدقت النية- قبل أن تغادر موقع السلطة، ولذلك فقد لا نخرج من "مرافعاتها البليغة" عن سياسة بلدها بأكثر من مزيد من الدلالات حول هذه السياسة التي قدِّر لنا أن نكون أكثر من يعاني منها في هذا العالم المضطرب.