نظراً إلى أن المجتمعات تتحول بشكل مطرد إلى مجتمعات كثيفة المعلومات، ونظراً إلى أن إيقاع الصفات التجارية يتسارع، ونظراً لزيادة مستويات التعقيد، ولأن الأسواق تصعد وتهبط بين عشية وضحاها، فإن الطلب على منتجات جديدة وأساليب جديدة وتقنيات جديدة يتصاعد إلى عنان السماء، هو الآخر. ومحصلة ذلك هي تعطش واسع النطاق للإبداع ذلك التعطش الذي أصبح على لسان كل مدير عام وكل مدير إدارة وكل استشاري في المشروعات التجارية العاملة في كل مكان، وإنْ كان هذا الأمر لا يقتصر على مجال الأعمال فقط. فالاقتصاديون اليوم يقولون لنا إن الأمة التي ستبدع ستتقدم، وإن تلك التي لن تفعل ذلك ستتأخر. وهكذا رأينا دولة تتقدم اليوم بسرعة مذهلة، وهي الصين تدشن حملة لترقية قدرتها على الإبداع، لأنها تدرك أن الإبداع قد غدا يمثل أساس التقدم. ولكن الدعوة إلى مجتمعات غنية بالقدرات الإبداعية شيء وخلق تلك المجتمعات شيء آخر، فيجب ألا ننسى في النهاية أن معظم الدول والمنظمات التي تتشدق بالإبداع، تُدار من قبل بيروقراطيات، يقوم عليها إداريون يقاومون التغيير وينتمون إلى العصر الصناعي. لذا، فإن الخطوة الأولى التي يجب علينا أن نخطوها هي أن نفشي سر "كود الإبداع" وهو ما يمكن إجماله على النحو التالي: 1- نسبة المخاطرة إلى المكافأة: مفتاح تدشين منظمة مُبدعة أو دولة مُبدعة يستند في المقام الأول على تحقيق نسبة المخاطرة -مكافأة فعالة على ألا يقتصر ذلك على النواحي المالية فقط. وعلى هؤلاء الذين سيقترحون أفكاراً جديدة أن يعرفوا أن تلك الأفكار ستقابل بالعداء من جانب زملائهم في العمل الذين تهدد تلك الأفكار استمرارهم في وظائفهم، بل ومن قبل رؤسائهم الذين سيقولون لهم إن تلك الأفكار غير عملية أو إنها ثورية أكثر من اللازم، وإنهم إذا ما تمادوا في مناقشة هؤلاء الرؤساء بعد حد معين، فإنهم قد يتم تهميشهم أو تنزيل درجتهم أو حتى طردهم من العمل. ولو حدث وكان مثل هؤلاء الأفراد المبدعين في دولة شيوعية مثل الاتحاد السوفييتي السابق، فإنهم لن يفقدوا وظيفتهم فقط بل سيفقدون سكنهم وفرص علاجهم وتعليم أبنائهم وفرص سفرهم إلى الخارج. كان ذلك يحبط من عزيمة المبتكرين وخصوصاً أن ابتكارهم لم يكن ليفيدهم في شيء، ففي النهاية كانوا سيحصلون على الراتب نفسه، الذي يحصل عليه زملاؤهم الذين لم يبتكروا ولم يقدموا جديداً. باختصار يجب على الموظف الأكثر إبداعاً أن يوازن بين المخاطرة التي سيقدم عليها بعرض أفكاره الإبداعية وبين المكافأة التي سيحصل عليها. لبيان ذلك علينا أن نقارن الوضع السابق الخاص بالنسبة بين المخاطرة والمكافأة بنفس الوضع أيام الطفرة التقنية في وادي السليكون بالولايات المتحدة، فقد كانت نسبة المخاطرة متدنية جداً، فلو قدم أحد الموظفين فكرة مبدعة ورفضت، أو فشلت فإنه ما كان ليخسر شيئاً، أما إذا ما قبلت أو ربحت، فإنه يمكن أن يربح الملايين، بل وربما المليارات كما حدث في بعض الحالات. 2- ثقافة النهوض بعد السقوط: من بين العوامل الأخرى التي تؤثر على مستوى إبداعية دولة ما، ذلك الخاص بثقافة تلك الدولة والمواقف القانونية من الفشل. فهناك دول تعتبر أن الفشل في شيء ما ليس مجهوداً ضائعاً بل إنه وسيلة للتعلم، فتتيح لمن يفشل الفرصة كي يحاول مجدداً، فذات مرة سئل مدير إحدى الشركات الكبرى ماذا سيفعل بمهندس لديه عرض عليه مشروعاً جديداً، ولكن هذا المشروع فشل فشلاً ذريعاً، وهل سيقوم بطرده من العمل فكان رده على ما يقال: كيف أطرده وقد دفعت تواً ثمن تعليمه من ملاييني الضائعة؟ علينا أن نعرف أن أي مشروع إبداعي لا يخلو من احتمال الفشل، ولكن المهم هو المحاولة مرة ثانية والنهوض بعد الفشل ومواصلة المحاولة. وتختلف الدول في ذلك، فهناك دول تمنح القادة في مجال معين فرصة واحدة للمحاولة، فإن نجح الواحد منهم فيها ظل في منصبه، ونال التكريم، وإنْ فشل كانت في ذلك نهايته. وهناك ثقافة أخرى مثل الثقافة الأميركية تحتفي بالأشخاص الذين ينهضون بعد سقوطهم أو يعتدلون بعد انحرافهم. ولعل هذا هو سبب تسامحها مع "ريتشارد نيكسون"، ومع بيل كلينتون وغيرهما ممن يعترفون بخطئهم، والذين يُطلق عليهم "الفتية العائدون إلى جادة الصواب". 3- الدعم الضريبي: من ضمن الطرق التي لجأت إليها الولايات المتحدة من أجل دعم الإبداع استحداث "كود ضريبي" معين يسمح للمواطنين الأميركيين بالمساهمة المالية في فئة خاصة من المشروعات غير الربحية، والمنظمات غير الحكومية والاستفادة بمزايا ضريبية مقابل ذلك في حين تقوم تلك المشروعات والمنظمات بضخ الأموال التي تلقتها من هؤلاء المساهمين لدعم الأبحاث المتعلقة بالابتكارات الجديدة. وفي الوقت الراهن، يتزايد عدد مثل هذه المشروعات والمنظمات بسرعة هائلة في مختلف أنحاء العالم وهو ما يؤدي إلى زيادة مساهمتها ودعمها للمبتكرات والاختراعات بصفة مطردة. 4- الفائزون بالجوائز في المستقبل: من بين الأساليب التي تلجأ إليها الحكومات والمشروعات الخاصة والمواطنون لدعم الأبحاث في مجالات معينة القيام بتقديم جوائز مادية سخية تصل إلى الملايين للمخترعين والمبدعين في تلك المجالات على نحو ما نرى في عدد من الدول، وخصوصاً المتقدمة والغنية. وهذا الأسلوب كان مستخدماً في الماضي، ولكن استخدامه تزايد في الوقت الراهن، بسبب تزايد الحاجة إلى الاختراعات والمبتكرات بشكل هائل. 5- ابتكار المستهلك المنتج: من بين التغييرات المهمة التي ستؤدي إلى تشجيع الابتكار والإبداع في السنين القادمة، ذلك الاعتراف المتزايد بأن الخبراء المتعاقد معهم ليسوا هم فقط القادرون على المساهمة في الإبداعات والابتكارات المهمة. فانتشار التقنية الرقمية، جعل من السهل على الجميع المساهمة بالأفكار الجديدة. وفي كتابي السابق" الثروة الثورية" قمت بوصف الأهمية المتزايدة لما يعرف بالاستهلاك المنتج أي تلك الأنشطة غير المدفوعة الأجر في الاقتصاد غير النقدي الواسع النطاق الذي يعتمد عليه الاقتصاد النقدي. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك موسوعة "ويكيبيديا" الإليكترونية التي تكونت بأسرها من مساهمات المتطوعين الذين لم يتلقوا أي أجر نظير ذلك. 6- تداول المعرفة: إن أي حكومة لديها الرغبة في تدعيم مستوى الابتكار والإبداع لديها يجب أن تواجه هذه الحقيقة. إن هذا الابتكار والإبداع سيتقدم بخطى أسرع إذا تم تداول البيانات والمعلومات بمعدلات أسرع وبحرية كاملة وإن القيود على تداول المعلومات والبيانات وبطء حركتها ستؤدي إلى بطء حركة الإبداع. 7- الجزء الأهم وهو تغيير النظام التعليمي: معظم الاقتصادات القائمة على خطوط الإنتاج كانت تتطلب عددا كبيراً من العمال الذين يؤدون أعمالاً روتينية من دون تفكير وكان النظام التعليمي مصمماً لتخريج مثل هؤلاء الموظفين وتعزيز قيم الالتزام والمثابرة والانضباط وعدم الخروج على النظام. أما اليوم ونظراً لأن الكثير من الدول تدخل إلى مرحلة ما بعد العصر الصناعي وتقوم ببناء اقتصادات قائمة على المعلومات، فإن تلك الدول بحاجة إلى إصلاح نظمها التعليمية بحيث تعمل على الترويج للإبداع والابتكار، وقد تثبت التجربة أن هذا الجزء هو أصعب الأجزاء جميعاً، وسوف يكون من الممتع أن نراقب الوضع لنرى مَن من تلك الدول سيتقدم على غيره ويسبقه في هذا المجال. إن هذه العناصر السبعة تمثل لب ما يعرف بـ"كود الإبداع" الذي يحتاج كل زعيم وقائد عالمي إلى معرفته قبل أن يقدم وعوداً بتحويل دولته إلى مركز عالمي للإبداع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تربيون ميديا سيرفيس"