يوشك الاتحاد الأوروبي على ارتكاب خطأ ذي بعد استراتيجي هائل وهو التعامل مع تركيا بجفاء بدلاً من الترحيب بها بين صفوفه؛ ففي اللحظة ذاتها الذي يمر فيها الغرب بحالة من التباعد العميق مع العالم العربي والإسلامي وهو تباعد يقوم إلى حد كبير على الجهل، والتحامل، وعدم التفاهم المتبادل تقوم أوروبا بإدارة ظهرها على الدولة الوحيدة التي تتمتع بوضعية فريدة تمكنها من العمل كجسر بين الشرق والغرب. وفي اللحظة ذاتها التي يمر فيها الشرق الأوسط بأزمات وحروب ذات خطورة، لم يسبق لها مثيل، تهدد بالامتداد إلى الدول المجاورة بل وإلى أوروبا ذاتها فشلت أوروبا في استيعاب حقيقة أن تركيا يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في تحقيق الأمن الإقليمي. وتركيا، خليفة الإمبراطورية العثمانية، والعضو المؤسس لحلف "الناتو" تعتبر من القوى الإقليمية الرئيسية وهي دولة ديناميكية ولكن تقليدية، علمانية ولكن إسلامية، ديمقراطية ولكن قوية عسكرياً ولها علاقات مع أوروبا تعود إلى قرون مضت. وكما يحب وزير خارجيتها "عبدالله جول" أن يتذكر دائماً، فإن تركيا أرسلت أول مبعوث دبلوماسي إلى فرنسا عام 1495 وأن فرنسا اختارت أسطنبول كي تكون موقعاً لأول سفارة خارجية لها في القرن السادس عشر. واليوم تستطيع تركيا أن تلعب دوراً رئيسياً في تحقيق الاستقرار في العراق، والمساعدة من خلال التوسط في الصراع العربي- الإسرائيلي، بفضل ما تتمتع به من علاقات جيدة مع طرفي النزاع. كما أظهرت مرة أخرى مدى التزامها بتحقيق الأمن الإقليمي عندما أرسلت ألف جندي للمساعدة على حفظ السلام في جنوب لبنان. في التاسع من نوفمبر من المقرر أن تقوم المفوضية الأوروبية بنشر تقرير عن مفاوضاتها مع تركيا خلال السنة الماضية، وعن التقدم الذي حققته تركيا في تنفيذ الإصلاحات التي طالبتها بها أوروبا. وهناك مخاوف حقيقية من أن يكون هذا التقرير المهم -الذي سيحدد إيقاع العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في المستقبل- سلبياً. فبدلاً من إقراره بالجهود التركية الضخمة للغاية للتماشي مع الأعراف والقيم الأوروبية وتبنيها -وبدلاً من التطلع إلى مساهمة تركيا الضخمة المحتملة في تحقيق الأمن والاستقرار في القارة الأوروبية- فإن المتوقع هو أن يؤكد هذا التقرير بشكل خاص على مجالات الاختلاف المستمر، ويطالب بالمزيد من التنازلات من جانب أنقرة، ويلقي باللوم على تركيا في الجمود الحالي في الوضع. الموقف سيئ جداً إلى الدرجة التي دفعت العديد من الملاحظين إلى الاعتقاد بأن العلاقة بين تركيا وأوروبا تتجه نحو الانهيار. وإذا ما تبين أن تلك المخاوف حقيقية، وإذا ما تبين أن تقرير المفوضية الأوروبية، قاسٍ على تركيا حقاً، فإن الدبلوماسية الأوروبية ستكون قد تعرضت إلى هزيمة كبيرة. وموقف الاتحاد الأوروبي الكاره لانضمام تركيا، أدى إلى رد فعل عنيف مناوئ لأوروبا في تركيا، كما أن من المحتمل أن يشجع القوى الرجعية المنتمية إلى التيار "اليميني" في أوروبا، وخصوصاً في النمسا وألمانيا وفرنسا التي تنادي بتعليق المفاوضات مع تركيا. ومن الموضوعات الأساسية التي يختلف بشأنها الجانبان ذلك الخاص بجزيرة قبرص الواقعة في البحر الأبيض المتوسط والمقسمة بين اليونانيين والأتراك. فالجزء اليوناني المعروف بجمهورية قبرص عضو بالاتحاد الأوروبي، أما الجزء الشمالي التركي، فلم يتم الاعتراف به كجمهورية مستقلة، علاوة على أنه يعاني من المقاطعة الدولية. والاتحاد الأوروبي يطالب تركيا بفتح مطاراتها وموانئها أمام طائرات وسفن جمهورية قبرص، وهو أمر يفترض أن تلتزم تركيا به بموجب الاتفاقية الجمركية الموقعة بينها وبين الاتحاد الأوروبي ولكن أنقرة ترفض التماشي مع بنود تلك الاتفاقية قبل أن يقوم الاتحاد الأوروبي برفع المقاطعة التي يفرضها على الجزء التركي من الجزيرة، وهو ما وعد الاتحاد الأوروبي به، ولكنه لم يفِ بوعده حتى الآن. إذن الموضوع المعلَّق هو موضوع متعلق بالمعاملة بالمثل ولو نظرنا للموضوع من ناحية مقاييس الإنصاف والعدل الطبيعي، فسيتبين لنا أن الأتراك على حق في موقفهم. وما يعزز هذا الرأي هو أن القبارصة الأتراك، قد وافقوا على خطة قدمها السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي عنان من أجل توحيد الجزيرة في حين أن القبارصة اليونانيين صوتوا ضدها. وهذا الموقف يعطي الأتراك الأفضلية الأخلاقية مرة أخرى على مناوئيهم. ومن هنا أرى أن الدبلوماسية الأوروبية لا تفتقد إلى الحصافة اللازمة لإيجاد حل لهذا النزاع المحتدم وإن كان تافهاً نسبياً. هناك عقبة أخرى تعترض طريق تركيا للاتحاد الأوروبي وهي مسؤوليتها التاريخية عن مذابح الأرمن عام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى عندما كانت الإمبراطورية العثمانية التي كانت تعيش في ذلك الوقت سنواتها الأخيرة منخرطة في صراع ضد القوى الغربية وروسيا القيصرية. في ذلك الوقت خشي الأتراك من أن يعمل الأرمن كطابور خامس يعمل لمصلحة وروسيا، وهو ما يفسر إلى حد ما بعض ما حدث، وإن لم يكن يبرر الفظائع التي تعرض لها الأرمن. فهناك العديد من الذين تم ذبحهم وهناك مئات الآلاف من الأبرياء الذين لقوا حتفهم بعد أن تم طردهم بدون رحمة من الأناضول ولم ينجُ منهم سوى أعداد قليلة وجدت طريقها في النهاية للاستقرار في سوريا ولبنان. والاتحاد الأوروبي يريد من تركيا أن تعترف بمسؤوليتها عن هذه المذبحة، على الرغم من أنه لم يجعل من هذا الاعتراف شرطاً لازماً لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. مع ذلك وفي زيارة قام بها إلى العاصمة الأرمينية "يريفان"، أعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك أن "فرنسا تعترف بالمذبحة الجماعية ضد الأرمن"، وذلك عندما وجه إليه سؤال عما إذا كان يتعين على تركيا أن تفعل ذلك كشرط للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. وكان مما قاله شيراك أيضاً: "بكل أمانة أنا أعتقد ذلك. فمما يزيد من قيمة الدول أن تعترف بمآسيها وأخطائها". وأشار شيراك إلى ألمانيا التي اعترفت بأخطائها وقامت بتعويض ضحايا الهولوكوست. وقد اقترحت تركيا تشكيل لجنة مكونة من مؤرخين أتراك وأرمن، ويمكن أن تضمَّن مؤرخين من دول أخرى للتحقيق في الأحداث المأساوية التي وقعت عام 1915، وأعلنت أنها ستلتزم بالنتائج التي تتوصل إليها اللجنة وتتصرف على أساسها. هل سيكون ذلك كافياً لإقناع أوروبا المنقسمة على نفسها بعمق بشأن قبول تركيا كعضو كامل العضوية؟ الأمر الحتمي -والذي يؤسف له في الحقيقة- هو أن إجابة هذا السؤال ستظل محل شك.