لا يخفى على كل ذي رؤية وبصيرة الدور الذي يستطيع الدين الإسلامي الحنيف النهوض به باعتباره رافعة حقيقية واستراتيجية للمستقبل مضمونة النتائج للإقلاع بهذه الأمة من وهْدة التخلف وميراث عصر الانحطاط الثقيل. وبقدر ما فطِن رواد عصر النهضة الأوائل نهاية القرن التاسع عشر، لهذه الحقيقة فسعوْا للتجديد، وفتْح باب الاجتهاد على قدر الحاجة ومعطيات الوقت، بقدر ما سعى بعض المتزمتين والظلاميين المتأدْلجين، اللاحقين على ذلك التاريخ، لطمْس تلك الحقيقة، وبالتالي لتغييب أي دور ممكن للدين الإسلامي الحنيف، في الأخذ بأيدي مجتمعاتنا المعاصرة قدُماً في مسيرتها الشاقة إلى المستقبل. هذا إن لم نقلْ إن فهم الظلاميين القاصر وإغلاقهم لكل أبواب الاجتهاد والتجديد، وضيق آفاقهم المذهبية والأيديولوجية في تأويل النص الديني، بل وانتقائيتهم غير المُنصفة أحياناً كثيرة في قراءة هذا النص، بحسب تقلُّب المواقف والمصالح الضيقة والأهواء، كل ذلك انتهى إلى ما نراه الآن من احتقانات وتجاذبات وتدافع سلبي، في غاية السلبية، وفي أكثر من دولة عربية وإسلامية. كما نرى اليوم أيضاً نتائج تلك القراءات الاختزالية القاصرة، والممارسات العنيفة المقيتة التي ترتبت عليها، فيما وصل إليه حال الإسلام الآن من تشويه ظالم لسُمعته الغراء، ومن هوانٍ واضح ومُستشرٍ على الناس في الشرق والغرب. وهي كلها نتائج وسلبيات أدت مع مرور الوقت إلى أزمة الوعي والهوية في عالم الإسلام اليوم، وإلى التباسات كثيرة جعلت التمييز بين الإسلام الحقيقي، والإسلام "الحركي"، غاية صعبة على كثير من الناس. فضُلِّل كثيرون عن جادة الصواب، وضلَّ عنها آخرون غيرهم طوْعاً وإرادة. والمحصِّلة في كلتا الحالتين فاقد مهدور وخسارة مضاعفة. إن زمننا هذا المتَّصف بالتدافع الحضاري، وبالانفتاح على بعضه بعضاً، وبالسباق المحموم في معارك كسب القلوب والعقول، وبثقافة الصوت والصورة والسماوات المفتوحة، لم يعُد فيه مكان، للانغلاقيين، والمتزمتين، الذين لا يقدرون على مواجهة معطيات الواقع، ووضوح الحقائق، المتنافسة بلا رحمة. فلا مكان في عالم اليوم، لمن ما زال يلوذ بأدبيات التنافر والإقصاء بين المذاهب داخل الإسلام، وبتصنيفات "الفرقة الناجية"، و"الفرق الضالة" و"المبتدعة" و"الكافرة"، إلى آخر المسميات، فضرورات اللحظة تفرض علينا جميعاً، كمسلمين، تغليب صوت الحوار الداخلي الإسلامي أولاً، وترسيخ مقوِّمات الإجماع فيما بيننا نحن قبل أن ننخرط في الدخول في حوار مع الآخر غير المسلم، بالحكمة والجدال الحسن، وبمختلف صور "الاشتباك الفكري الإيجابي" الأخرى التي أُمرنا بها. فعلى هذا الحوار الإسلامي الداخلي يتأسس ذلك الحوار الإنساني الخارجي، وبوجوده توجد شروطه، وبانعدامه تنعدم. إن شريعة الإسلام السمحاء ومقاصده الحقيقية العادلة الكاملة، المبرَّأة من كل عيْب، قادرة دون شك على رفع كل تحديات الزمان والمكان، لو تم تخليصها من سفاهات التأويل القاصِر وشططه المُخل والمنافي لمقاصد الشريعة المُطهَّرة، أحياناً كثيرة، وهذا يطرح ضرورة تحمل علماء الإسلام اليوم لمسؤوليتهم التاريخية الجسيمة تجاه الله، وتجاه الأمة، وتجاه أنفسهم أيضاً. فمهمتهم الأساسية اليوم تكمن في تبصير الناس بما للإسلام من سماحة، ومن تعدد رؤى، وثراء فكري وعقدي، فيه رحمة، ولا مجال معه للاختزال والانتقاء، أو للتعصب والاستئصال والأحادية. كما أن عليهم بعث الروح مجدداً في إمكانات وآفاق وتقاليد الاجتهاد الفقهي لإعادة تبصير الناس بما أمر به الدين من تيسير لحياة الخلْق، في تفاصيلها ومفرداتها اليومية، وما نهى عنه من تعسير، وتعقيد وتنفير، بشتى الصور والأشكال. بقيت أخيراً الإشارة إلى أن هذه القبسات السريعة، كُتبت من وحي وروح جلسات الحوار الفكري، التي شهدها المجلس الرمضاني للفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والتي حضرتْها كوكبة من الوجوه الوطنية والفكرية والإعلامية، وهي جلسات أسَّس فيها المحاضرون والحضور لبداية طيبة وقوية لفهم الداء ووصف الدواء، لما فيه مصلحة خير أمة أُخرجت للناس.