من الآن و حتى أكتوبر أو نوفمبر من العام القادم، سيكون الجنرال المتقاعد "سورايود تشولانونت" (63 عاما) هو الآمر الناهي في تايلاند. فهو الذي سيدير شؤون البلاد الداخلية والخارجية، وهو الذي سيشرف على إعداد دستور جديد ويحدد موعد الانتخابات البرلمانية القادمة لإعادة السلطة إلى المدنيين. ولأن ظروف اليوم غير ظروف الأمس، حيث لم يعد الشارع التايلندي قابلاً للرضوخ طويلاً لحكم العسكر بعدما وضعت انتفاضته الجماهيرية في عام 1992 البلاد على طريق الديمقراطية والإصلاح السياسي، ولأن المتغيرات العالمية فرضت واقعاً جديداً لم يعد فيه بإمكان الحكومات العسكرية أن تبقى في السلطة دون عزلة أو عقوبات دولية، فإن قادة الانقلاب العسكري الأخير الذي أطاح في التاسع عشر من الشهر الماضي بحكومة رئيس الوزراء "تاكسين شيناواترا" المنتخبة ديمقراطياً، حرصوا على البحث طويلاً عن شخصية لتولي رئاسة الحكومة الانتقالية تتوفر فيها جملة من المزايا والاعتبارات التي من شأنها أن تطمئن الداخل والخارج، وتلبي حاجة المرحلة، وتجنب البلاد المزيد من الانقسامات، وتحظى في الوقت نفسه بثقة المؤسسة الملكية. وباستعراضهم وتفحصهم لأسماء مدنية وعسكرية عديدة على مدى أسبوعين، لم يجدوا أمامهم أفضل من الجنرال "سورايود". أما لماذا "سورايود" تحديداً، وليس واحداً من الذين توقعتهم الصحافة والأوساط السياسية من أمثال رئيس البنك المركزي السابق "تشاتومونغول سوناكول" الذي كان "تاكسين" قد عزله في عام 2001، أو "سوباتشاي بانيتشباكدي" الذي يرأس حالياً مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، أو "أكاراتون تشولارات" كبير قضاة المحكمة الإدارية العليا، فلأسباب كثيرة لئن تعلق بعضها بشخصية "سورايود" المتميزة، فإن البعض الآخر يرجع إلى مناقبيته ومواقفه وعلاقاته الجيدة مع كافة الأطراف. فالجنرال الذي يملك خبرة أربعين عاماً في السلك العسكري، منها عدة سنوات قضاها كقائد ميداني في الحرب ضد المتمردين الشيوعيين في الستينيات، وسنوات أخرى قضاها لتثبيت الأمن على حدود بلاده مع كمبوديا في الثمانينيات، يعتبر في نظر الكثيرين أحد جنرالات الجيش القليلين الذين لم تتلوث سمعتهم بالفساد، ولم يذكر عنه سعيه لاستغلال منصبه في مصالح شخصية. وبهذه الصفة، فهو مناسب لقيادة التغيير الذي كان أحد مبرراته فساد رئيس الحكومة المخلوع وبطانته، خاصة وأن الرجل كان قد اصطدم في أكثر من مناسبة مع الأخير على خلفية قضايا تتعلق بالمحسوبية والفساد على الصعيدين المالي والسياسي. ومن جهة أخرى، عُرف "سورايود" بأنه رجل دون طموحات سياسية، بل مؤيد لإبعاد العسكر قدر الامكان عن السياسة، وهو ما ثبت أولاً يوم أن عهد إليه بوظائف مكتبية في عام 1997، فقبلها دون تذمر قبل أن يستدعيه رئيس الوزراء المدني وقتذاك "تشوان ليكباي" ويضعه على رأس الجيش لتطهير المؤسسة العسكرية من الفساد والفاسدين، وثبت ثانياً يوم أن دفعته خلافاته مع "تاكسين" في عام 2003 إلى ترك الجيش بهدوء دون قيامه بالتحريض ضد رئيسه، والانصراف للعمل مع الكهنة البوذيين، قبل أن يستدعيه ملك البلاد "بهوميبول ادولياديج" ويعينه ضمن أبرز مستشاريه المقربين. وبهذا، فإن تعيينه على رأس السلطة الجديدة فيه تطمين للمتخوفين من احتمال أن يستمر الرجل في السلطة طويلاً بقبضة حديدية كما اعتاد أسلافه العسكريون، وفيه أيضاً الحصول على مباركة المؤسسة الملكية ودعمها ورضاها. إلى ما سبق، يمكن القول إن مواقف "سورايود"، غير الودية من الطغمة العسكرية الحاكمة في بورما في التسعينيات، والتي انعكست في مساعدته للاجئين البورميين على الإقامة في الأراضي التايلندية المتاخمة لميانمار، والتنديد بخرق حقوقهم، ومعارضته لارتباط إمبراطورية "تاكسين" بأعمال تجارية مع جنرالات "رانغون"، لهو دليل إضافي على اختلاف الرجل عن كافة أسلافه القمعيين، وفيه ما قد يبعث الطمأنينة لدى أنصار الديمقراطية وحقوق الإنسان في الداخل والخارج. وفي هذا السياق يقول البروفسور "سورات هوراتشايكول" من جامعة "تشولالونغكورن" -التي اشتهر طلابها وأساتذتها بإسقاطهم لأكثر من حكومة عسكرية- إن "سورايود" هو أحد الجنرالات القلائل الموثوق فيهم والمؤمنين حقاً بالمبادئ الديمقراطية. أما دليله، فهو أن الرجل كان له موقف مشرف أثناء أحداث عام 1992 الدموية، حينما تجنب شخصياً إصدار الأوامر كقائد لقوات النخبة الخاصة بإطلاق النار على المتظاهرين ضد حكم العسكر، وحاول تشكيل لوبي داخل الجيش للضغط من أجل وقف سفك الدماء. ويمكن التذكير أيضاً بمواقف الرجل من مشكلة التمرد الإسلامي في الأقاليم الجنوبية من البلاد، والتي تميزت بانتقادات مريرة للطريقة العنيفة التي انتهجتها حكومة "تاكسين" في التعامل مع المشكلة، ومرافقته لملكة البلاد وولي عهدها في جولات للمنطقة تهدئة لخواطر سكان الجنوب المسلم. ومن هنا قيل إن اختياره لقيادة البلاد يشكل عامل تهدئة للوضع المتأزم هناك، وبما يقوي عملية المصالحة الداخلية من بعد الانقسامات غير المسبوقة التي تسبب فيها "تاكسين"، الأمر الذي يبدو أن أحزاب المعارضة السياسية متفقة عليه بدليل تصريح أحد قادتها من أن "سورايود" كان اختياراً موفقاً في سبيل إعادة توحيد الأمة. وعلى العكس من معظم الجنرالات الذين تناوبوا على قيادة المؤسسة العسكرية، عرفت الفترة التي قاد فيها "سورايود" الجيش ما بين عامي 1998 و2003 بإصلاحات كثيرة بغية تحويله من مؤسسة تشغلها مصالحها الضيقة ومتهمة بالفساد والتهريب والاتجار بالمخدرات إلى مؤسسة حديثة ومنضبطة وقابلة للاستجواب والمساءلة. ويعكس هذا بطبيعة الحال جانباً إضافياً من مزايا الرجل يتمثل في الحزم والانضباط وإطلاق المبادرات مع التعامل مع مختلف الأطراف بذكاء وهدوء وطبقاً للقانون. وهذا هو أكثر ما تحتاجه ظروف المرحلة الحالية. لذا لم يكن مستغرباً أن تصفه مجلة "تايم" في نسختها الآسيوية بأنه "ربما كان أحد أكثر رموز الجيش التايلندي أهمية وبعداً للنظر في العصر الحديث". وأخيراً، فإن رئيس الحكومة الجديد يتمتع بعلاقات جيدة مع الأميركيين، الذين أسبغوا عليه مديحاً طوال سنوات خدمته كقائد للجيش لكفاءته ونزاهته وإصلاحاته ودعمه لفكرة مشاركة القوات التايلندية لأول مرة منذ تأسيسها في عملية حفظ السلام في تيمور الشرقية. ومثل هذه العلاقات قد يساعد على تلطيف الموقف المعارض للولايات المتحدة، كبرى حليفات تايلاند وشريكاتها التجاريات، من الانقلاب العسكري، والذي تمثل في قرارها بتجميد مساعدات عسكرية مقررة لتايلند بمبلغ 24 مليون دولار كنوع من الاحتجاج والضغط لإعادة السلطة إلى المدنيين في أسرع وقت.