لا تزال تداعيات الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان تتفاعل في الداخل الإسرائيلي. فإذا كانت الساحة السياسية اللبنانية قد تميزت وللأسف بعد الحرب بسجالات وانقسامات وتوترات دون أن يدخل المتساجلون إلى عمق القضايا، ودون أن يكون بحثاً موضوعياً علمياً استراتيجياً حول الحرب ونتائجها وانعكاساتها بعيدة المدى على إسرائيل ولبنان والمنطقة كلها، باستثناء بعض الأفكار أو التحليلات أو التعليقات التي صدرت من هنا وهناك ولم ترق إلى مستوى البحث أو الدراسة الجدية المتكاملة في النتائج والتي يبنى عليها مشروع استراتيجي مستقبلي، فإن الساحة السياسية الإسرائيلية تبدو هي الأخرى ساخنة مميزة بالانقسام والتوتر وحدة الخلاف والسجال والاتهامات المتبادلة بين المسؤولين السياسيين والعسكريين. ومع أنه لم يعد ثمة كبار واستراتيجيون في إسرائيل كما في السابق، فإن دراسات كثيرة نُشرت، ومراكز أبحاث استنفرت لدراسة مراحل ما بعد الحرب وما يمكن أن يحل في إسرائيل! وثمة ما يشبه الإجماع في إسرائيل على أن الجيل الجديد فيها لا يريد القتال. وإذا أراده فهو لا يجيده كما أسلافه. وروحه ليست روحاً قتالية كما كانت روح الأجيال السابقة. إنه جيل يريد الحياة والأمن والاستقرار وثبت له أن الاعتماد على القوة فقط لا يمكن أن يحقق النجاح. لأن روح الخصم روح قتالية، لا تعرف الخوف. وما المواجهات التي حصلت في الأسابيع الأخيرة إلا دليل على ذلك. وهذه إحدى أهم النقاط التي تناقش في المجتمع الإسرائيلي اليوم. ماذا نفعل؟ كيف نعالج هذه المسألة؟ هل نبقى في خطر؟ هل نترك روح الآخرين "الشريرة" تنتصر على أرواحنا "الطاهرة" ونحن "شعب الله المختار"؟ أسئلة كثيرة تطرح في الوسط الإسرائيلي السياسي والعسكري وترافق ذلك مع نقاش حول فعالية المخابرات الإسرائيلية. واللافت في هذا المجال أن نقاشاً يدور حول الفشل المخابراتي الإسرائيلي، لجهة سوء تقدير قوة الطرف الآخر في لبنان وفلسطين، أو لجهة عدم امتلاك معلومات دقيقة عن رموزه وقياداته ومراكزه ومراكز مخازن أسلحته وأنفاقه. "فالمفاجأة اللبنانية" جاءت بعد وقت قليل من مفاجأة الأنفاق الفلسطينية التي منها تسلل المقاومون، خطفوا جندياً إسرائيلياً لا يزال محتجزاً لديهم حتى الآن رغم كل العمليات التدميرية التهجيرية الإرهابية والمجازر الجماعية والتهديدات المستمرة بمزيد من القصف والخراب والدمار. وترافق ذلك مع نشر معلومات عن فضيحة كبرى في جهاز "الموساد" الإسرائيلي تتمثل في الكشف عن أن أبرز رموز هذا الجهاز المدعو "إيهود غيل"، الموهوب والذي كان له الدور البارز في جمع المعلومات عن المفاعل العراقي الذي تم قصفه في عام 1981، وفي جلب يهود "الفالاشا" من أثيوبيا إلى إسرائيل في منتصف سنوات الثمانينيات، قدم على مدى عشرين عاماً تقارير مُفبركة إلى قيادته عن سوريا نسبها إلى جنرال سوري كبير كان يؤكد أنه مصدر معلوماته وتبين أن التقارير كاذبة، كما اعترف "غيل" نفسه بذلك لأنه عجز عن استقاء معلومات دقيقة، فاضطر إلى كتابة ما كتب، وكاد ذلك يؤدي إلى اشتعال حرب بين سوريا وإسرائيل في خريف عام 96. مسلسل من الهزائم والفضائح والهزات تعيشه إسرائيل اليوم. ويترافق ذلك مع حديث عن المستقبل. في هذا الإطار، كان أحدنا إذا ما أشار إلى أن لكل شيء نهايته ولإسرائيل نهايتها، يعتبر من قبل كثيرين أنه يمارس نوعاً من الهذيان والهلوسة السياسية أو الرومانسية السياسية. اليوم هذا الكلام يصدر من إسرائيل نفسها. فخلال الحرب وعندما كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية تقصف وتدمر وتغتال الأبرياء في لبنان كتب الصحافي "يونتان شيم" مقالاً في صحيفة "معاريف" عنوانه: "تل أبيب بنيت عام 1909. في عام 2009 ستصبح أنقاضاً"! ومنذ سنوات، (2003)، كتبت مقالاً على هذه الصفحة حول مواقف أطلقها "أبراهام بورغ" رئيس "الكنيست" السابق ومما قال فيها: "نهاية المشروع الصهيوني على عتبات أبوابنا. وهناك فرصة حقيقية لأن يكون جيلنا آخر جيل صهيوني"! لا العقل الإسرائيلي المتحجِّر المُقفل على الحقد والمكابرة والاستعلاء والغرور، ولا العقل الأميركي مع "المحافظين الجدد"، وهم محافظون على كل شيء قديم يميز هذا العقل الإسرائيلي، لا هذا ولا ذاك أراد التفكير والتبصُّر بما يجري. وقد لفت انتباهي في هذا السياق ما كُتب في أحد المواقع الإلكترونية من سرد تفصيلي فيه تأريخ لما قاله سياسيون وعسكريون وشعراء وأدباء وكتاب وفنانون إسرائيليون حول النهاية الحتمية للظلم والقهر وحتى للانتصار! وكان أول المتحدثين عن ذلك "موشيه دايان" عام 54 وكان وزيراً للدفاع والخارجية. عندما شارك في جنازة صديق له قتله الفدائيون الفلسطينيون فقال: "علينا أن نكون مستعدين ومُسلحين، أن نكون أقوياء وقساة. حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة". وصولاً إلى ما كتبته مجلة "نيوزويك" (2/4/2002 ) تحت عنوان: "مستقبل إسرائيل : كيف سيتسنَّى لها البقاء؟" استمر السيف في قبضاتهم، واستمر الإرهاب والقتل والدعم الأميركي المفتوح لهم، وها هي قبضتهم ترتجف، والتساؤل حول عمر هذه الحياة يكبُر. كيف يمكن التعامل مع هذا الأمر؟ هل يعني هذا الشعور ضرورة الاستمرار بالإرهاب والقتل والسيوف والمدافع والدبابات والطائرات والقنابل العنقودية والنووية؟ كل ذلك لن يضمن أمناً لإسرائيل وللمنطقة. الضمانة الوحيدة الحل السياسي القائم على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين واستعادة الأراضي العربية المحتلة في الجنوب اللبناني والجولان، والدخول في عملية تنمية بشرية تقنية مالية اقتصادية اجتماعية تربوية في المنطقة. هذا هو طريق الأمن والاستقرار, ما عدا ذلك سيبقى الإرهاب الإسرائيلي ينتج العنف العربي والإسلامي المشروع في مواجهته، ويهدد في النهاية أمن إسرائيل الدولة التي قامت على أرض الغير. قلت ذلك أثناء الحرب على لبنان، وأنا مقتنع به اليوم أكثر بعد مراقبتي للتفاعلات داخل إسرائيل وللاندفاعات الأميركية غير الموفقة على طريقة "رايس" وتصريحاتها ومواقفها، والمواقف غير المدروسة لرئيسها. ولكنْ هل ثمَّة منْ يسمع؟