أصبح الإعلام، خاصة الإعلام المرئي، أهم عامل إخباري وثقافي وفني وتربوي في حياة الأفراد والشعوب. يملأ أوقاتهم، ويغرز فيهم قيمه، ويؤثر في سلوكياتهم، أكثر من الأسرة أو المدرسة أو الجامعة. أصبح الإعلام بديلاً عن العلم، منافساً له، وربما مزحزحاً إياه. بل إن الأغاني نفسها أصبحت أشبه بالإعلانات فيما يسمى "الفيديو كليب" بما فيها من رقص وتثنٍّ وإثارة للغرائز. كما أن الإعلانات أصبحت مجرد أغانٍ راقصة حتى لمبيدات الحشرات الزاحفة والطائرة. وتتخلل الإعلانات معظم المسلسلات التلفزيونية التي يشاهدها الملايين على القنوات الفضائية وليس فقط على القنوات المحلية بعد أن أصبحت الأطباق الهوائية فوق أسطح جميع المنازل بالعشرات. بل إنه في بعض المسلسلات والأفلام، الإعلانات هي الأصل، تأخذ أكثر من نصف الوقت، والمسلسل هو الفرع، يأخذ أقل من نصف الوقت. مثال ذلك إعلان "..... تتحدى الملل" الذي يُعرض في إحدى القنوات. وبالرغم من أهمية ما تذيعه القناة تلك من أفلام قديمة وتراث سينمائي أوشك أن يندثر إلا أن هذا الإعلان يدمر ما تصنعه. ويقضي على ما تهدف إليه. يحتوي على ثلاثة مناظر. عنصر واحد ثابت فيها وعنصر آخر متغير. العنصر الثابت رجل مفتول العضلات، منفوخ الصدر مثل رواد الفضاء، يضع نظارة على عينيه قبل بداية عمله. يسير الهوينى وكأنه يتسرب إلى الميدان، ويتسلل إليه. لا يواجه بل يخادع. يأتي من وراء الضحية ويغتالها. وليس هذا سلوك القوي. فالقوة شجاعة. والشجاعة شهامة. وهو ما لا يتوفر في هذا العملاق و"الطرازان" و"رامبو". وهو نموذج للأفراد في الاعتماد على القوة، وللدول في الاعتماد على الغزو والعدوان. فالقوة هي الحل. وهي السبيل لتحدي الملل، القوة العمياء التي لا ترحم كبيراً أو صغيراً. المنظر الأول لزوجين مُسنين. يقضيان أوقات الفراغ في ممارسة الرياضة، لعبة دفع كرة صغيرة في حفرة. لا تتطلب جهداً ولا تحتاج إلى جري أو "نطٍّ" أو عنف. يلعبان في هدوء بعد مرحلة طويلة من سِني العمر. لا يشعران بالملل، فالعِشرة حية في الذاكرة، والرفقة في الطبيعة على عشب أخضر مع ممارسة لرياضة هادئة، تحافظ على الصحة، وتبعث الأمل في النفوس. الزوج يمسك بالمضرب ويحركه بنعومة وفي هدوء ملائكي. ويكرر حركة اليد عدة مرات ليحسن التصويب بدفع الكرة الصغيرة في الحفرة الأصغر. والزوجة تنتظر على مقربة منه. تقف على عكازين تقوى بهما على غوائل الزمن. وتنظر إلى زوجها في حنان وتشجيع على حسن الأداء وتبتسم له. فهما في انتظار كرته كي تقع في الحفرة التي تحت أقدامها كي يكسب الجولة ولا يشعر بالخسران. الوصال بين الزوجين قائم. وذكريات السنين عطر يملأ المكان. وفجأة يتسلل الرجل القوي من بُعد. يلبس نظارته، ويشحذ قواه، ويجند طاقاته. يأتي خلف الزوج العجوز ويحمله بيديه كالعصفور، ويدور به ويلف عدة مرات بسرعة. ثم الزوج يطير في الهواء في طاحونة دائرية. ثم يقذف به الرجل القوي على الأرض. فيقع جثة هامدة منبطحاً على الأرض ومُسوًّى بها. ثم يقف من جديد في رعب ويسترد عافيته وهيئته كإنسان. ويهرول مذعوراً بعيداً عن هذا الوحش، وتجري وراءه ببطء زوجته ذعراً. فأي ملل يتحداه هذا الوحش؟ وأية قسوة يمثلها ضد هذين العصفورين؟ وإذا كانت "...." تتحدى الملل بهذه القسوة. فهي بديل مرعب. يرى أن "الإرهاب" هو الحل، و"الرعب" هو البديل. والمنظر الثاني، شاب يغني لأصدقائه. ويعزف على الجيتار أو العود. ولا يوجد ما يوحي بالملل عند مستمعيه من أصدقائه. ويجتهد المغني العازف، ويبذل جهده قدر طاقته في الغناء. ثم يتسلل الوحش من ورائه ويأتي بقادوم يضرب به رأسه. ويقضي الوحش على الفنان. فهل هذه هي الوسيلة للقضاء على الملل؟ ولا يوجد ما يوحي بملل المستمعين. والفن الحديث كله بهذا المعنى، يوحي بالملل، ولكنه عند النقاد عبقرية أصيلة لم يشهد مثلها تاريخ الفن من قبل. أسكَتَ الوحش المغني دون أن يأتي بغناء بديل. قضى على الفن دون أن يأتي بفن مُغاير. قتل الحياة دون أن يبعثها من جديد. والمنظر الثالث حوار بين ضيف وإعلامي تلفزيوني من خلال الكاميرا. وكما هي العادة يثرثر الضيف كما هو الحال في كثير من حوارات النخبة. كلام في كلام. لا يفهم منه الناس شيئاً. لذلك سئموا من البرامج الثقافية، وملوا أحاديث المثقفين. ثم يأتي الوحش من خلف الضيف. يجره من قدميه. فيوقعه على الأرض سحلاً وكما يتم في بعض النظم السياسية مع المعارضين الذين يُسحلون في الشوارع. والضيف يستغيث بالإعلامي. والإعلامي لا يتحرك لإنقاذ ضيفه خشية أن يصيبه ما أصاب الضيف. فهل يُقضي على الملل من الإعلاميين بسحْل ضيوفه ومحدثيه؟ وهل الإعلام البديل هو القوة والبطش والاغتيال؟ خطورة ذلك الإعلان أنه يجعل "القوة هي الحل"، والبطش هو البديل، والغدر هو الطريق. ولا بديل عن الملل بعد القضاء على المملين من المسنين والفنانين والمثقفين، إلا القضاء عليهم، والحكم عليهم بالموت، دون تحليل ظاهرة الملل، ومعرفة أسبابها، وإيجاد الطرق للتخلص منها. رياضة المسنين ليست مللاً بل لملء الفراغ، وأنساً بالرفقة. والغناء النمطي كما هو الحال في الغناء الشبابي الآن يملأ فراغ الطبقة الدنيا، ويعزيها عن الفقر بأغانٍ راقصة، وإيقاعات حادة، وتصفيق بالأيادي، وكأن الغاية من الغناء ليست جمال الكلمات كما هو الحال في الشعر، ولا جمال اللحن كما هو الحال في الموسيقى الشرقية القديمة، بل القصد التفريج عن القلب، والترفيه عن النفس، والتطهر من عذاب اليوم وآلام الزمن. يؤدي دوراً علاجياً كما هو الحال في "الزار" والرقص الصاخب، والموسيقى العالية عن طريق معدات تكبير الصوت الحديثة. والإعلام الرسمي كلام في كلام. لا يقضى عليه بـ"موت المؤلف" بل بإيجاد إعلام مستقل بديل يعنى بمشاكل الناس، ويحاكم بعض المسؤولين في الدولة، ويكشف الفساد الإداري والمالي والسياسي. خطورة هذا النوع من الإعلام هو أنه يحاول إصلاح الخطأ بخطأ آخر، خطأ الملل بخطأ القوة، خطأ السطحية بخطأ العنف. ومجموع الخطأين لا يكوِّن صواباً. إن وظيفة الإعلام الأولى هي الحوار، مقابلة الرأي بالرأي الآخر، وبلورة الوعي الشعبي بقضايا المجتمع، وليس مقابلة الرأي حتى ولو كان خاطئاً بالعنف حتى ولو كان مصيباً. ثم يشتكي المجتمع بعد ذلك من العنف والإرهاب، وبعض الإعلام يزرعهما من خلال الإعلانات. ويشتكي من الانحلال والانحراف، وبعض الإعلام يحث عليهما من خلال "الفيديو كليب"، والمنافسة في "التقصُّع" والخلاعة. ويشتكي من التطرف وهو الذي يبعثه ويثيره ويدفع إليه بالتطرف الإعلامي في البرامج الدينية والسياسية. يا ليت القنوات التلفزيونية تتحدى الملل بشيء آخر غير القوة والعنف والضرب فوق الرأس، والسحل على الأرض، والقذف في الهواء. فما فائدة استبدال الخوف بالملل، والرعب بالعياء؟ والمفارقة أن اسم تلك القناة يفيد العذوبة وليس الضرب بالعصي والسحل بالحبل والقذف باليد إلى الهواء.