قامت وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" بزيارة مكوكية إلى المنطقة في الأسبوع الماضي، وقابلت عدداً من القادة والوزراء العرب. وكان العنوان العريض للزيارة رغبة الجانب الأميركي "المعلنة" لإعادة إحياء عملية السلام المتعثرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد استاءت الدول العربية من إحباط مشروعها الذي أعلنته الجامعة العربية منتصف هذا الصيف، إبان الاعتداء الإسرائيلي على لبنان، والذي طالب بنقل ملف القضية الفلسطينية إلى مجلس الأمن للتعامل معه بقدر الاهتمام والمسؤولية اللذين يتعامل بهما المجلس مع قضايا أقل سخونة، مثل الملف الإيراني، وملف إرسال قوات أممية إلى لبنان، وملف إرسال قوات أخرى إلى دارفور. ولقد أساءت عرقلة المشروع العربي المعروض على مجلس الأمن، من قبل الولايات المتحدة، للدول والشعوب العربية، لكنَّ هذا في الوقت ذاته مثـَّل نقطة ضغط على واشنطن، بقصد إحراجها لأنها لا تولي هذه القضية الاهتمام الكافي، وأشعَر هذه الإدارة بانزعاج حلفائها من الدول العربية المحافظة من عدم اهتمام واشنطن بهذا الملف. وهناك من رأى في زيارة رايس محاولة شبه جادة لإعادة إحياء عملية السلام المتعثرة، ولكن البعض أيضاً نظر إليها على أساس أنها زيارة مُجاملة و"تطييب للخواطر"، أكثر منها كزيارة تريد فعل شيء ما لهذه القضية المؤرِّقة لجميع العرب وحكوماتهم. وقد ظهر التباين الواضح في وجهات النظر بين واشنطن وحلفائها في المؤتمرات الصحفية التي عقدتها رايس في العواصم العربية. فالدكتورة "رايس" اهتمت بالشكليات المتمثلة في إنهاء الصراع السياسي بين حركتي "فتح" و"حماس"، والذي للأسف بدأ يأخذ طابعاً دموياً، بين مقاتلي الحركتين، بينما اهتم الوزراء العرب بإنهاء حالة الاحتقان الناتجة عن الضغط الإسرائيلي على الفلسطينيين وقتالهم واغتيال النشطاء منهم بشكل شبه يومي، كما أن الزعماء العرب يريدون الإصغاء إلى صوت الشارع العربي الذي يطالب حكوماته بفعل شيء ما تجاه قضيتهم المصيرية. أما الإدارة الأميركية فهي تريد "تهدئة" الأمور على الساحة الفلسطينية، دون إيجاد حلول جذرية لها. كما أنها تريد من العالم العربي أن يساعد حكومة بوش في إيجاد مخرج "مشرِّف" لوضعها المتأزم في العراق، حيث تمُر هذه الإدارة بانتخابات نصْفية لرجال الكونجرس خلال الشهر القادم. لذلك فهي حريصة على تهدئة الأمور على الساحة العراقية، وتخفيف حدة القتل والعمليات العسكرية، حيث تأمل في أن يساعد ذلك في تحسين صورة "الإدارة الجمهورية" أمام الناخب الأميركي الساخط على سياستها الخارجية، وعلى مثل هذه الحروب التي لا تنتهي. من ناحيتها تريد واشنطن من الزعماء العرب الضغط على جارتهم إيران لتتخلى عن أحلامها النووية، وأن تحيِّد حلفاء إيران ومناصريها المحتملين في المنطقة. مثل هذه الأمور والمطالب الأميركية يجب أن تعترف في المقابل بأن هناك مطالب عربية شرعية، وأنها يجب أن تلتفت لمثل هذه المطالب. ويبدو أن المخططين الأميركيين لا يلتفتون إلى عنصر المبادلة الأساسي، وهو أن أي دعم للحكومة العراقية الحالية، والعمل على تهدئة الوضع المتفجِّر في هذا البلد، يحتاج أيضاً من الإدارة أن تلبي ولو جزئياً المتطلبات الشرعية والسياسية لحلفائها في قضيتهم الجوهرية. مثل هذه المبادلة يبدو أنها غائبة عن وعي السياسيين الأميركيين مع أنها كانت حاضرة في وعي الرؤساء السابقين، خاصة جورج بوش (الأب) حين ربط بين إخراج القوات العراقية من الكويت، وبين العمل الدبلوماسي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ولا زال الزعماء العرب من ناحيتهم يأملون في تحقيق مثل هذه المبادلة. لكن الإدارة الحالية، تشعر بعدم الاهتمام من منطلقات أيديولوجية بمثل هذا التوجه، أو أن الوقت المتبقي لها في الحكم لن يساعدها على إعادة بناء أطر السلام والعمل بجد خلال السنتين المقبلتين على تحقيق نتائج ملموسة على الأرض. من ناحيتهم نجد أن الفلسطينيين أنفسهم غير قادرين على جمع كلمتهم، وغير قادرين على لعب اللعبة السياسية وهم يطالبون بوقت أطول للتروِّي فيما يُعرض عليهم، ولكن الشعب الفلسطيني الذي يعاني منذ ستة أشهر من ضغوط اقتصادية وقطع تام للمساعدات، لم يعد لديه الوقت الكافي لتحمُّل المزيد من مثل هذه الضغوط المعيشية والحياتية. فهو ليس محتلاً احتلالاً كاملاً، وهو ليس بمستقل، وهناك حكومة منتخبة لكنها لا تستطيع فعل أي شيء لمساعدة نفسها وشعبها. لذلك فإن محاولة إحياء فكرة "حكومة الوحدة الوطنية"، هي محاولة جيدة، وليكنْ الغرض منها رفع الحصار الاقتصادي على الفلسطينيين، وينبغي أن تترك الأمور السياسية الأخرى لمرحلة ثانية، وحين يحصل المواطن الفلسطيني على رغيف الخبز المفقود، فإنه سيفكر بالأطروحات والمبادرات السياسية. وفي مثل هذا الحال فلا ينبغي إرهاق أي "حكومة وحدة وطنية" بحِمل ثقيل من الالتزامات السياسية، فالغموض في السياسة والدبلوماسية في بعض الأحيان أمر محمود. ووجود نصف كُوَّة مفتوح، خير من فتح باب كامل على مصراعيه، دون وجود عابرين لذلك الباب. وإذا لم يصلِح الفلسطينيون من أوضاعهم الداخلية، ولم يتمكنوا من التفاوض مع بعضهم بعضاً بشكل عقلاني ومعقول، فإنه لن تكون لهم كلمة واحدة مسموعة في المسرح الدولي، أو الإقليمي، ولن يكونوا قادرين على التفاوض مع الآخرين.