في مقال سابق حاولنا أن نبيِّن مدى تبعية الدول الصهيونية للولايات المتحدة ومن ثم الخلل التحليلي الكامن في تصور أن هذه الدولة هي التي تحرك السياسة الأميركية. ويشير الكثيرون إلى حجم المساعدات الأميركية التي تصب في الجيب الصهيوني، ويأخذون هذا على أنه دليل دامغ على تحكم اللوبي الصهيوني في القرار الأميركي، ويتساءلون: لماذا تدفع الولايات المتحدة كل هذه المبالغ الطائلة للدولة الصهيونية؟ وهم ولاشك على حق في قولهم إن المبالغ التي تصب في إسرائيل طائلة. فقد ذكر تقرير أميركي أن جملة ما أنفقته الولايات المتحدة على إسرائيل منذ عام 1973 حتى اليوم بلغ 1600 مليار دولار، وإذا ما تم تقسيم هذا المبلغ على سكان العالم اليوم فسيكون نصيب الفرد منه 5700 دولار. وقد أعد هذا التقرير المستشار الاقتصادي المعروف توماس ستوفر، الذي يقول إن ما تلقته إسرائيل حتى الآن يفوق ما أنفقته الولايات المتحدة في حرب فيتنام بضعفين تقريباً. وفي مقارنة قيمة هذه المساعدات بميزانيات الدول العربية، فإنها تعادل ميزانيات 20 دولة عربية -باستثناء السعودية ومصر- عام 2000 لنحو 20 سنة. ولا تزال إسرائيل تطالب بالمزيد من المساعدات الأميركية، ففي اجتماع في البيت الأبيض الشهر الماضي طلب مسؤولون إسرائيليون ما قيمته 4 مليارات دولار على شكل مساعدات عسكرية إضافية لمواجهة التكلفة المتصاعدة من جراء التعامل مع الانتفاضة والعمليات الفدائية، بالإضافة إلى 8 مليارات دولار أخرى ضمانات مقابل قروض لإنعاش اقتصاد بلادهم الذي وصل إلى مرحلة الكساد. وتتضمن المساعدات الأميركية مبلغاً يتراوح بين 50 و60 مليار دولار على شكل أسهم إسرائيلية اشترتها المنظمات اليهودية الأميركية، و10 مليارات دولار قدمتها الولايات المتحدة على شكل ضمانات لقروض تجارية إلى إسرائيل، و60 مليار دولار على شكل قروض لبيوت سكنية، و25 مليار دولار منحتها الولايات المتحدة لدعم مشروع صواريخ "لافي" و"أرو" الإسرائيليين. وتستعمل إسرائيل 40% تقريباً من المبلغ الذي تقدمه أميركا على شكل مساعدات عسكرية لشراء الأسلحة الأميركية. وقد أدت سياسة العقوبات السياسية والتجارية الأميركية إلى انخفاض الصادرات الأميركية إلى الشرق الأوسط بنحو 5 مليارات دولار في السنة، وأدى ذلك بالتالي إلى فقدان أكثر من 70 ألف وظيفة في أميركا. وفقاً لتقديرات الاقتصاد الأميركي. إن الذين يتحدثون عن المبالغ الطائلة التي تصب في إسرائيل قد رصدوا الظاهرة فحسب ولم يضعوها في سياقها، ولذا لم يمكنهم تفسيرها التفسير الصحيح. ولندعْ الكتّاب الإسرائيليين يفسرون لنا هذه الظاهرة ويضعوها في سياقها. انظرْ على سبيل المثال مقال "نحميا شترسلر" بعنوان: "إسرائيل التي تتفاخر بنفسها وبقوتها الاقتصادية والعسكرية ليست سوى دولة تابعة للولايات المتحدة في كل المجالات" (هآرتس 2 مايو 2006 أي قبل الهجوم على لبنان بعدة شهور)، يقول الكاتب: منذ الخمسينيات عندما لم يكن لدى الدولة "الصهيونية" مالٌ تدفعه مقابل القمح والوقود، تحدث "ديفيد بن جوريون" عن الاستقلال الاقتصادي. الفكرة كانت زيادة الصادرات بوتيرة سريعة حتى تموَّل كل الواردات، وبذلك لا تكون هناك حاجة للتسول أمام أعتاب المقرضين والمانحين. في عام 2005 وصلت إسرائيل إلى وضع أصبحت فيه الصادرات معادلة للواردات، ولكن لم ينجزوا هذا إلا بفضل الهبات الممنوحة من الولايات المتحدة وألمانيا ويهود الشتات. فهل يعني ذلك أننا قد وصلنا إلى الاستقلال الاقتصادي؟ ليس بالتحديد. العجز في ميزان المدفوعات لا يملك المغزى الذي كان يملكه في السابق. فسعر العملة الصعبة حُر، ولذلك سيصل ميزان المدفوعات دائماً إلى نقطة التوازن. ولكن إذا لم تقم الولايات المتحدة وألمانيا ويهود الشتات بتحويل 4 مليارات دولار لإسرائيل سنوياً، سينشأ نقص في الدولارات ويحدث انخفاض في قيمة العملة فتزداد الصادرات وتقل الواردات، وينشأ توازن جديد في ميزان المدفوعات. المشكلة هي أن الفائدة في هذه العملية سترتفع، والنمو الاقتصادي سيقل، فتضطر الدولة إلى رفع الضرائب حتى تمول نفقاتها، أي أن مستوى حياة الجمهور سينخفض، (ويجب أن نتذكر أن المستوطنين الصهاينة تركوا بلادهم ليحققوا حراكاً اجتماعياً وليزيدوا من معدلات الاستهلاك، وهو اتجاه تزايد مع تصاعد التوجه نحو اللذة في المستوطَن الصهيوني). ولكن المِنح والهِبات جزء من الصورة فقط. إذ يتوجب أن نذكر دائماً الدعم الاقتصادي الأميركي الذي يحول دون فرض العقوبات في الأمم المتحدة، والدعم العسكري الذي يوفر لإسرائيل تفوقاً عسكرياً، والدعم العلمي. أي أن إسرائيل بعد 58 عاماً من استقلالها -وهذه مسألة ليس من اللطيف ذكرها- بعيدة لسنوات ضوئية عن الاستقلال. مما يعني أنها ليست أكثر من دولة وظيفية تابعة للولايات المتحدة". وقد أكد أمير ربابورت (معاريف 23 مايو 2006) أن المساعدة الأمنية الأميركية تزداد بمقدار 60 مليوناً في كل سنة، وغدت تقترب من 2.4 مليار دولار، وفي الوقت ذاته يتضاءل النصيب الذي تخصصه حكومة إسرائيل للأمن من ميزانية الدولة، وقد وصل الأمر إلى حد أنه "من بين الـ43 مليار شيكل (الدولار يعادل 4 شيكلات تقريباً) من الميزانية الأمنية في عام 2006، يضيف مواطنو الولايات المتحدة شيكلاً إلى كل ثلاثة شيكلات يُفردها مواطنو إسرائيل لأمنهم". ثم يتساءل "رباربوت" عن سر هذا السخاء، فيبين أن الدولة الصهيونية الوظيفية قد تنازلت عن قدر كبير من سيادتها، فهي ليست حُرة تماماً في كيفية التصرف في هذه المساعدات. فسلاح الجو الإسرائيلي لا يمكنه شراء طائرات مقاتلة من أوروبا الغربية أو من روسيا، كما أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لأن تُركِّب على الطائرات المقاتلة المستقبلية، "إف 35"، نظماً قتالية متقدمة تنتجها إسرائيل، وهي النظم التي تمنح سلاح الجو الإسرائيلي امتيازه النوعي. وقرار منع الدولة الصهيونية من تركيب نظم إسرائيلية ينبع أيضاً من أن المؤسسة الصناعية العسكرية الأميركية لها مصلحة في خنق الشركات الأمنية الإسرائيلية التي تنافسها بنجاح في أنحاء العالم. ولا يوجد لسلاح الجو الإسرائيلي خيار حقيقي في أن يبتاع في المستقبل طائرات من خارج الولايات المتحدة لأن جميع ميزانية شرائه تمولها أموال المساعدة. ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، حيث يُبيِّن "رباربوت" أن اعتماد جهاز الأمن الإسرائيلي على المساعدة الأميركية أفضى أيضاً إلى أن وزارة الدفاع اضطرت صاغرة لأن تقيم قسماً كاملاً مهمته تمكين الأميركيين من الرقابة على التصدير الأمني الإسرائيلي، لمنع تسرب التكنولوجيا العسكرية الأميركية إلى دول مُعادية للولايات المتحدة. ويختتم الصحفي الإسرائيلي "جدعون ليفي" إحدى مقالاته بالقول إن المساعدة الأميركية السخية هي في واقع الأمر فخ، فهو يزيد من اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة فيزيد تبعيتها ووظيفيتها! وعنوان المقال دال للغاية: "المساعدة الأمنية المقدمة إلى إسرائيل مخصصة في الأساس لدعم الصناعة الأميركية وتضر الإنتاج الإسرائيلي". ولكن هل يمكن للدولة الوظيفية أن تقاوم وترفض المساعدات الأميركية مصدر حياتها؟ إن المساعدة الأميركية السخية ليست بريئة تماماً، فهي تفقِد الدولة الصهيونية استقلالها وسيادتها، بحيث تظل خادماً طيِّعاً للولايات المتحدة. والله أعلم