دارفور: صراع إقليمي يؤججه التهميش القومي تجدد الجدل مرة أخرى حول اضطرابات إقليم دارفور السوداني، وزادت حدة الخلاف على تشخيصها وسبل الوصول إلى مخرج منها، ليضع الموقف بين الخرطوم وواشنطن أمام باب موصد أو على طريق بلا منافذ! فقد سعت الولايات المتحدة منذ مدة إلى فرض "معالجة دولية" لذلك الصراع، ووقفت وراء القرار الأممي رقم 1706 الصادر نهاية أغسطس الماضي، والقاضي بنشر قوة دولية تحل محل قوة الاتحاد الأفريقي في الإقليم. ثم جاء تصريح الرئيس الأميركي جورج بوش، يوم الثلاثاء الأخير، عن اعتزام بلاده تمرير قرار دولي بإرسال قوة أممية إلى دارفور، دون موافقة الخرطوم، ليضيف تعقيدات جديدة في مسار الأزمة. فبعد أقل من 36 ساعة على ذلك التصريح، وجه الرئيس السوداني عمر البشير رسالة إلى كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، حذر فيها من أن المساهمة في تلك القوات ستعد "عملاً عدوانياً، ومقدمة لغزو دولة عضو في الأمم المتحدة"، وهو ما أثار حفيظة واشنطن التي دعت إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن، أعرب أعضاؤه خلالها، مساء الخميس الفائت، عن بالغ استيائهم من الرسالة "غير المسبوقة"! لكن ما هي جذور الأزمة المستحكمة في دارفور؟ وكيف جرت أهم المحاولات السلمية لحلها؟ وما الذي يعيق تسويتها في نسق التداخلات الإقليمية والعالمية أو في التركيبة المحلية للإقليم؟ كانت الشرارة الأولى لانطلاق الحرب الأهلية في دارفور، في شهر فبراير 2003 حين قامت مجموعة مسلحة مجهولة بالاستيلاء على حامية "قولو" العسكرية في جبل مرة، ثم نقلت عملياتها إلى مدينتي "كتم" و"الفاشر"، ليتضح أنها "كوماندوز" مشترك بين "حركة العدالة والمساواة" و"جيش تحرير السودان"، وهما فصيلان ظهرا حينئذ للمطالبة بوضع حد للتهميش الذي يعاني منه الإقليم، وبمنحه سلطات أوسع لإدارة شؤونه المحلية. ولتلك المطالبات صداها القوي لدى الدارفوريين الذين يشعرون بظلم مزمن في ظل الدولة السودانية منذ استقلالها، رغم ما لإقليمهم، بثرواته الزراعية والحيوانية، من إسهام في الدخل الوطني. فهو يشغل الجزء الغربي من السودان بمساحة تبلغ 510 كيلو متر مربع، أي خمس مساحة البلاد أو ما يعادل مساحة فرنسا كلها، وينقسم إدارياً إلى ثلاث مناطق: شمال دارفور وعاصمته مدينة الفاشر، وجنوب دارفور وعاصمته مدينة نيالا، وغرب دارفور وعاصمته مدينة الجنينة. أما سكانه فعددهم نحو 6 ملايين نسمة، يمثلون خمس إجمالي سكان السودان أيضاً. ويضم إقليم دارفور أكثر من مئة قبيلة، بعضها قبائل أفريقية تحترف الزراعة، أهمها الفور والزغاوة والمساليت والميدوب... وبعضها الآخر قبائل عربية رحل تمتهن الرعي مثل الرزيقات والهبانية والجوامعة والمهيريا والمعاليا. وكانت هذه القبائل معاً السند الأساسي للثورة المهدية التي ناضلت وحكمت قبل أن تسقط عام 1898 ليعود السلطان علي دينار لحكم دارفور. لكن الإقليم سقط بيد الإنجليز عام 1916 كآخر منطقة تنضم لدولة السودان. ولم تشهد منطقة دارفور طوال تاريخها الحديث هدوءاً واستقراراً معتبراً؛ فابتداء بحروب (الزبير باشا) عام 1874، ثم الثورات المتتالية على حكمه، وما أعقبه من عهود وثورات ضد الإنجليز... عانت المنطقة من نزاعات قبلية على موارد الأرض والماء المحدودة. ففي السبعينيات حدث نـزاع بين "المعاليا" و"الرزيقات"، ثم بين "الرزيقات" و"المســيرية" وبين "التعايشة" و"السلامات"، كما اندلع نزاع مسلح عام 1982 بين "الزغاوة" و"الفور"، وبين "الفلاتة" و"القمر" عام 1996، ومن جانب "المساليت" و"الفور" ضد القبائل العربية عام 1998. على هذه الخلفية العريضة من الاحتكاكات العرقية والقبلية، يستند الصراع الحالي في دارفور، إلا أنه يستند أيضاً إلى عوامل أخرى غذته؛ بما في ذلك المكايدات الحزبية، وأهمها الدور الذي لعبته "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وما قدمته من دعم لحركات التمرد في دارفور والتي كثيراً ما أشادت بـ"المواقف الوطنية والسيرة النضالية" لمؤسس التمرد الجنوبي جون غرنغ. وإلى ذلك فإن إقليم دارفور بسبب مساحته الشاسعة وحدوده المفتوحة على ثلاث دول، ونتيجة لوجود قبائل عديدة لها امتداداتها داخل دول أفريقية أخرى... يمثل منطقة صراع إقليمي محتدم ومستمر. فقد تأثر بكل الصراعات الدائرة في محيطه، كالصراع التشادي- التشادي، والصراع الليبي- التشادي، والصراعات التي شهدتها أفريقيا الوسطى... وقد تفاعلت قبائله مع تلك الأزمات، وراجت فيه تجارة السلاح. ورغم أن كثيراً من النزاعات السابقة في دارفور تم احتواؤها من خلال النظم والأعراف القبلية، فإن النزاع الحالي يعد الخضة الأكبر في تاريخ الإقليم، إذ ظهرت إلى العلن حركات تمرد أشهرت السلاح في وجه الدولة المركزية، وأدى القتال بين الطرفين إلى سقوط ما لا يقل عن 50 ألف قتيل، حسب تقديرات غربية، كما أدى إلى نزوح نحو مليون شخص، منهم 100 ألف يعيشون في مخيمات للاجئين داخل الحدود التشادية. في هذا الخضم الذي يحيطه الغموض وتغيب كثير من حقائقه، ظهر مصطلح "الجنجويد"، وهم مسلحون عرب يلبسون اللون الأبيض ويركبون الخيل والإبل ويغيرون على القرى مقترفين أعمال القتل والاغتصاب والتدمير والحرق، بدعم مباشر أو غير مباشر من الخرطوم، كما تقول منظمات دولية! وأمام مأساة فاقمتها حالة الفلتان الأمني في الإقليم، وبسبب افتقار أي من أطرافها إلى إمكانية الحسم العسكري المباشر، وقّعت الحكومة السودانية وفصيل التمرد الرئيسي في "حركة تحرير السودان" بقيادة مني مناوي، في مطلع مايو الماضي، على "اتفاقية أبوجا" التي تحدد جملة من الترتيبات لتقاسم السلطة والثروة، ولدمج قوات التمرد وعودة النازحين واللاجئين. جاء حدث التوقيع بعد عام على اتفاق "نيفاشا" للسلام في جنوب السودان، والذي وضع حداً لأطول حرب أهلية في أفريقيا. فماذا قدم "المجتمع الدولي" لإنجاح "أبوجا"؟ وهل يتحلى الكبار بقليل من الصبر حتى تأخذ الاتفاقية حظها من الوقت وفرص الإنفاذ؟ محمد ولد المنى