في عام 660 قبل الميلاد، كان اليابانيون يؤمنون بإله يدعى "إيزاناجي". كما كانوا يؤمنون بأنه من عين هذا الإله ولد "أماتيراسو" إله الشمس، ومنها وُلد الإمبراطور المقدس "جيمّو" الذي تتحدر منه العائلة المالكة في اليابان والتي توالى على العرش منها 124 إمبراطوراً حتى الآن. ولذلك فإن الملكية اليابانية هي أقدم ملكية في العالم. بل لعلها أقدم ملكية في التاريخ. وهي لا تتميز فقط بأنها ظلت مستمرة طوال 2666 عاماً فقط، ولكنها تتميز بأن استمرارها قام على الرجال الذكور فقط. وكان الشعب الياباني يعتبر الإمبراطور مقدساً لاعتقاده أنه ينحدر من الإله. وقد كرّس ذلك الدستور الأول الذي وُضع في عام 1889. ولكن بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية تخلّى الإمبراطور هيروهيتو في عام 1946 عن هذه القداسة. غير أن الدستور حافظ على النص الذي يقول بذكورية الإمبراطور. من هنا كانت المشكلة التي حملت اليابان همّها طوال السنوات الأربعين الماضية، ذلك أن آخر ذكر للعائلة المالكة وُلد في عام 1965. ففي عام 1959 تزوج ولي العهد أكيهيتو من سيدة من عامة الناس وأنجب منها ولدين ذكرين وبنتاً واحدة. وعندما مات الإمبراطور هيروهيتو في عام 1989 خلفه ابنه أكيهيتو واعتلى منصب ولي العهد شقيقه ناريهيتو الذي تزوج بدوره في عام 1993 من دبلوماسية يابانية تدعى "ماساكو أوادا" تخرّجت من جامعتي هارفارد واكسفورد، ولكنها لم تنجب ذكراً حتى الآن. وقد أصيبت بانهيار عصبي لم تشفَ منه بعد من شدة الضغوط النفسية التي تعرّضت لها لإنجاب وريث للعرش. ومن أجل ذلك اضطر رئيس الحكومة السابق كويزومي لأول مرة في تاريخ اليابان إلى إعداد تعديل للدستور يسمح لسيدة بأن تعتلي العرش. إلا أنه كان من شأن هذا التعديل أن يثير انقسامات حادة في المجتمع الياباني المحافظ. ذلك أن الثقافة العامة لا تسمح بقبول امرأة على رأس الدولة رغم كل التقدم الحضاري والتقني الذي أحرزته اليابان. ورغم أن رئيس الحكومة كان يعرف ذلك، فقد وجد أنه لا مفر من إعداد التعديل الدستوري ومن عرضه على مجلس النواب لضمان استمرار الملكية ولو من خلال امرأة . في هذه الأثناء أُعلن أن الأميرة كيكو زوجة الابن الثاني للإمبراطور حامل. فجمّد رئيس الحكومة مشروع التعديل إلى ما بعد الولادة. إذ أن من التقاليد الإمبراطورية في اليابان عدم محاولة التعرُّف على جنس الجنين (بواسطة التصوير بالأمواج الصوتية) وهو في أحشاء أمه. ولذلك بقي الجنين مجهول الجنس، ذكراً أو أنثى، حتى يوم ولادته. وخلال هذه الفترة كانت اليابان تعيش في قلق. وكان القلق أشد ما يكون بين أفراد الأسرة المالكة. وقبل ثلاثة أسابيع من الموعد المحدد للولادة، نقلت الأميرة إلى مستشفى خاص في طوكيو حيث وضعت تحت العناية الطبية تحسباً لأي طارئ. ذلك أن عمر الأميرة الأم هو 40 عاماً. ثم إنها وضعت للمرة الأولى أنثى بعملية قيصرية -وستتم الولادة الجديدة بعملية قيصرية أيضاً. وفي الموعد المحدد، السادس من سبتمبر -وضعت الأميرة كيكو مولودها. فكان مولوداً ذكراً، الأمر الذي أزاح عن صدر اليابان كابوس الدخول في معركة اجتماعية- ثقافية- دينية لتعديل الدستور. وعلى الفور بادر رئيس الحكومة إلى سحب مشروع التعديل قبل إحالته إلى البرلمان ليبقى مجرد وثيقة تاريخية!. قد تثير هذه التفاصيل علامات استفهام حول ما يبدو أنه تناقض مع يابان التكنولوجيا والحداثة والتقدم العلمي الباهر، حتى إن رئيس اتحاد المعابد الشنتوية (الديانة اليابانية الخاصة التي اشتُقّت من البوذية) البروفسور نوريفيمومي شيمازو، يقول: "إن الإمبراطور لعب دوراً مركزياً في تاريخ اليابان. فاليابان لا يمكن أن تكون دولة من دون الإمبراطور. إن تاريخ اليابان بدأ بالإمبراطور وهو متأصل في أساس الشخصية اليابانية"... فاليابان غارقة من أذنيها حتى أخمص قدميها في التقاليد. ولكن المزاوجة بين الأمرين -التقدم والتقاليد- على ما بينهما من تناقض شكلي يبدو أمراً يسيراً. فقد اكتشفتُ خلال زيارتي لأحد المعابد البوذية في طوكيو أنه بعد أن دمر الأميركيون هذه المدينة عن بكرة أبيها أواخر الحرب العالمية الثانية بالقصف الجوي، جرت عملية إعادة الإعمار فور انتهاء الحرب. وخلال الحفريات التي جرت لإعادة بناء المعبد الذي تهدم معظمه من جراء القصف، عثر العمال على تمثال صغير للآلهة "كانو". (ويعتقد أن هذا التمثال جيء به منذ عدة قرون من الهند، مسقط رأس البوذية). فاعتبر البوذيون اليابانيون ذلك فألاً حسناً، مما شجعهم على إعادة بناء المعبد وتوسيعه، وقد احتفظوا بالتمثال المقدس في غرفة مغلقة في المعبد للمحافظة عليه. وعندما أسس أحد رجال الأعمال اليابانيين شركة لإنتاج آلات التصوير، أطلق على مؤسسته اسم "كانون" تيمناً باسم تمثال الآلهة. ومعروف أن هذه المؤسسة اليوم هي واحدة من أكبر المؤسسات الصناعية في العالم لإنتاج أجهزة التصوير الإلكترونية الحديثة!. وقد رأيت في الممر العريض الذي يفصل بين أجنحة المعبد موقداً كبيراً يتصاعد منه الدخان باستمرار. ولما سألت عن معنى هذا الموقد قيل لي إنه يُشعل ناراً مقدسة. وإن الدخان المتصاعد منه هو دخان مقدس أيضاً، وإن من يمرر الدخان فوق رأسه يصبح أكثر ذكاءً، وإن من يمرره فوق جيوبه، يصبح أكثر غنى. ووقفت أراقب الناس من مختلف الأعمار.. كانوا جميعاً يحرصون على تمرير الدخان فوق رؤوسهم فقط. فالحداثة لا تتناقض مع التقاليد ولا حتى مع الإيمان، بصرف النظر عن صيغ التعبير عن هذا الإيمان. ففي طوكيو مثلاً التي يبلغ عدد سكانها أكثر قليلاً من 14 مليون مواطن لم أشاهد في الشارع امرأة بملابس غير محتشمة رغم حرارة الطقس وارتفاع الرطوبة. ولا يعني ذلك أن اليابان مجتمع مثالي. ولكن اللامثالية لا تظهر على السطح وخاصة في الشارع. أمران يهزان المشاعر في اليابان. تهذيب الناس، والنظافة العامة. فالانحناءة اليابانية التقليدية على درجات.. وهي تزداد كلما كان الآخر أكبر سناً.. أو أعلى مقاماً. ويبدو أن المرأة هي التي تنحني عادة للرجل احتراماً. ولكن عندما يعود الرجل في آخر الليل إلى بيته بعد أن يكون قد قضى مع أصدقائه سهرة.. فإنه ما أن تفتح له زوجته الباب حتى ينحني لها 90 درجة إجلالاً واحتراماً!. أما النظافة فلعل في القصة التالية ما يعبّر عنها: كنتُ أمارس رياضة المشي في حديقة عامة قريبة من الفندق الذي أنزل فيه. هناك رأيت سيدة مسنّة تجرّ كلباً.. أو كلباً يجرّ السيدة. فجأة توقف الكلب، ورفع أحد أطرافه الخلفية وقذف ما في بطنه على الأرض. فما كان من السيدة اليابانية الا أن أخرجت من حقيبة كانت تحملها، لاقطة بلاستيكية ملفوفة بورق السيلوفان الأبيض. انحنت قليلاً وجمعت أوساخ الكلب باللاقطة، ثم لفّت الأوساخ بورقة السيلوفان ووضعتها في سلة المهملات. وبعد ذلك أعادت تغليف اللاقطة بورق جديد ووضعتها في حقيبتها.. وتابعت مشوارها!.. غير أن المشكلة الأساسية في اليابان بالنسبة للزائر الأجنبي هي أنها من أغلى دول العالم، وخاصة مدينة طوكيو. فقد دلّني أحد الأصدقاء إلى عمارة سكنية كبيرة في حي رئيسي من أحياء العاصمة وقال لي إن أجرة الشقة في هذه العمارة تبلغ 40 ألف دولار شهرياً. وحاولت أن أصححه فقلت: تقصد سنوياً. فعاد وأكد: لا.. بل شهرياً!. ولما سألتُ عما إذا كانت تلقى زبائن قادرين على دفع هذا الأجر العالي.. أجابني: ليست المشكلة في إيجاد الزبائن، بل المشكلة في إيجاد عدد كافٍ من الشقق للإيجار. ولم أقدِّر مدى غلاء المطاعم إلا بعد أن دفعتُ مئة دولار ثمن عشاء في مطعم صيني!. وللغلاء -نظراً للتباين الكبير في الدخل الفردي- فإن أمثالنا محرومون من ممارسة سياحة التبضّع (آمل أن تقرأ زوجتي هذه الانطباعات حتى تعذر تقصيري)، ولكنهم محظوظون بالتمتع بالصدق في المعاملة وباحترام الكرامة الإنسانية.