في كتابه الأخير "حالة إنكار"، يرسم الصحفي الأميركي المخضرم "بوب وودورد" صورة سلبية للإدارة الأميركية، مبرزاً الرئيس الأميركي جورج بوش الابن كقائد يفتقد للفضول المعرفي وعاجز عن التصرف الناضج الذي يليق برجل الدولة. المؤلف أيضاً يصور الرئيس بوش كقائد يتزعم حكومة حرب تفتقر إلى الكفاءة وتنكفئ وراء تصور راسخ يقترب من اليقين الديني الذي يعتبر سياساته دائماً على حق بينما يرفض أية محاولة لإعادة النظر في خططه وتقييم رجاله المقربين على ضوء النتائج المتحصل عليها في إدارة الحرب على العراق. وإذا كان الصحفي "وودورد" قد عودنا في كتبه السابقة على الإشادة بإدارة بوش وإسباغ صورة إيجابية على سياساتها، خصوصاً تلك التي تلت هجمات 11 سبتمبر، نجده في كتابه الحالي يكشف جوانب القصور التي تعتري هذه الإدارة، والتي هي نتيجة ليس فقط للسياسات الخاطئة التي انتهجتها الإدارة في تدبير شؤون الحرب في العراق، بل الكامنة أساساً في عناد الإدارة ورفضها المستميت تغيير استراتيجيتها والبحث عن خيارات بديلة. وينظر "وودورد" إلى الرئيس بوش كرئيس يدفن رأسه في الرمال ويفضل التستر وراء حالة مستمرة من نكران الحقيقة ورفض رؤية الوضع المتدهور في العراق بعيون مفتوحة. إنه رئيس يدير ظهره في عناد منقطع النظير لجميع المقترحات والدعوات التي أطلقتها شخصيات بارزة، سواء في الكونجرس أو المؤسسة العسكرية، بضرورة خفض القوات الأميركية في العراق. لكن المؤلف الذي كرس كتابه للإدارة الأميركية لا يقتصر في انتقاده على الرئيس فقط، بل يوجه سهامه أيضاً إلى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ويخصص له حيزاً معتبراً من الكتاب بالنظر إلى اللغط الذي أثاره الرجل جراء فشل السياسات التي حاول "البنتاجون" رسمها في العراق. وهكذا يبرز رامسفيلد كرجل فظ في تعامله مع الآخرين ومتصلب في آرائه يرفض تحمل مسؤوليته على رأس القيادة العسكرية، همه الوحيد استخدام سلطته لفرض سياساته، لكنه يتنصل منها ما أن تخفق تلك السياسات وتظهر عقمها. رامسفيلد الذي آثر إحاطة نفسه بالمريدين والمؤيدين الذين ينفذون توجيهاته دون مناقشة، تلك التوجيهات التي ظلت ملتصقة بتصوره حول جيش يعتمد أساساً على التكنولوجيا المتطورة ويقلل من عدد القوات حتى عندما بدأت تتبدى عيوب هذا التصور. واللافت أن رامسفيلد نجا من جميع محاولات الإطاحة به التي سعى إليها العديد من الشخصيات البارزة، إذ ظل بوش متمسكاً به إلى غاية هذه اللحظة. وفي هذا الإطار يورد المؤلف محاولة "أندرو كارد" كبير موظفي البيت الأبيض خلال انتخابات عام 2004 الضغط في اتجاه تغيير رامسفيلد، حيث اقترح اسم وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر ليشغل المنصب. كما يستشهد "وودورد" بالمخاوف التي أبدتها زوجة بوش لورا إزاء رامسفيلد واحتمال إلحاقه الأذى بسمعة زوجها. لكن جميع المساعي الرامية لإقالته باءت بالفشل أمام تدخل نائب الرئيس ديك تشيني لدى الرئيس وإقناعه بضرورة الحفاظ على صديقه القديم على رأس وزارة الدفاع، متذرعاً بأن ذلك من شأنه بعث رسائل خاطئة إلى العدو تُظهر الولايات المتحدة وكأنها عاجزة عن مواجهة المتمردين في العراق وإنجاح المشروع الأميركي في بلاد الرافدين. وينتقل المؤلف في نقده لمسؤولين آخرين في الإدارة الأميركية مثل المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية جورج تينيت الذي وصف بأنه أحد الذين عارضوا في البداية الحرب على العراق، لكنه مع ذلك استنكف عن التعبير الصريح عن معارضته لتظل حبيسة صدره دون أن يبوح بها إلى الرئيس. وتينيت هو فقط واحد من مجموعة من المسؤولين الذين يستغرب المؤلف كيف آثروا الصمت على الجهر بآرائهم حول الواقع المتدهور في العراق مثل موقف جي جارنر الذي أرسلته الإدارة الأميركية للإشراف على العراق عقب سقوط بغداد. فقد عُرف عن جارنر معارضته لذات الأخطاء القاتلة التي سقطت فيها إدارة بوش وأفضت إلى المشاكل الكثيرة التي يعيشها العراق حالياً، حيث تحفَّظ على حل الجيش العراقي وتسريح الموظفين من حزب "البعث". وقد أفصح عن مخاوفه تلك إلى رامسفيلد وجعله يقابل الرئيس بوش، لكن الغريب أن جارنر وعلى غرار باقي المسؤولين، فضل رسم صورة وردية عن العراق مغرقة في التفاؤل والتقديرات غير الصحيحة، رغم علمه المسبق بفداحة الوضع على أرض الواقع. ورغم التقارير السرية وغير السرية التي أعدها خبراء بطلب من مسؤولين في الإدارة الأميركية، ظلت السياسة الأميركية تتسم بالتخبط والارتجالية بعيدة عن أية رؤية شاملة، أو تصور متكامل للخروج من الأزمة. وفي هذا السياق يلفت المؤلف الانتباه إلى التقرير الذي أعده مساعد وزيرة الخارجية فليب زيليكو عقب زيارة خاصة قام بها إلى العراق لتقييم الوضع والخروج بخلاصة، حيث جاء فيه أن "العراق مازال دولة فاشلة يتخبط في العنف المتصاعد". لكن التقرير اصطدم بتعنت الإدارة الأميركية وظل حبيس أدراج وزارة الخارجية دون أن يصل إلى الرئيس بوش. ويواصل المؤلف كشفه عن الشخصيات التي ساهمت في بلورة الرؤى المتصلبة للإدارة الحالية واتباعها المسار الذي مازالت تصر عليه، إذ يشير إلى التأثير الكبير الذي مارسه وزير الخارجية الأسبق هنري كسينجر الذي حث الرئيس بوش على الحفاظ على سياساته في العراق وحذره من إعادة خطأ فيتنام بسحب القوات الأميركية تحت الضغط الشعبي. ويصف "وودورد" الذهول الذي سيطر عليه عندما وجه سؤاله إلى وزير الدفاع رامسفيلد حول العدد المتزايد للهجمات في العراق ليجيبه وزير الدفاع "بأنهم يخلطون هذه الأيام بين مناوشة عادية وعملية كبيرة، كما يخلطون بين الموز والتفاح والبرتقال". زهير الكساب الكتاب: حالة إنكار المؤلف: بوب وودورد الناشر: سيمون أند شوستر تاريخ النشر: 2006